عادي
الكتاب الأسود لقضية كلير ستريم الفرنسية

قصـة مجـانين ... 1/3

03:55 صباحا
قراءة 12 دقيقة
تأليف: فريدريك شاربيي / عرض وترجمة: بشير البكر

مشهد سوريالي يحاول هذا الكتاب، قصة مجانين، الكتاب الأسود لقضية كليرستريم، تفسيره، إذ لا أحد في فرنسا يعرف حقيقة ما هو الملف الذي هو الآن بين أيدي العدالة للبت فيه. الكل يتحدث عن كليرستريم ولكن لا أحد يستطيع فك الرموز، وتحديد مَنْ اعتدى على مَنْ، ومن هو الضحية حقيقة ساركوزي أم دوفيلبان، وأين يكمن الحق من الخطأ، وأين المؤامرة من البراءة... ألف سؤال وسؤال يربك المواطنين، وهذا ما يحاول ان يجيب عنه الصحافي فريديريك شاربيي في كتابه الصادر حديثا عن دار سوي.

ساركوزي ودوفيلبان.. مَنْ تآمر على الآخر؟

تعيش فرنسا هذه الأيام على وقع محاكمات قضية كليرستريم التي ينشغل بها الاعلام على نحو فريد. وإذا كان أغلب الفرنسيين يعترفون بأنهم لا يفقهون عنها شيئا. وإذا كان هذا الكتاب نفسه يقول إن الأمر ليس أكثر من وَهْم، فإن واقع الأمر شيء آخر.الميديا تشتغل والكاريكاتور وخطب رئيس الوزراء الأسبق دومينيك دوفيلبان العصماء المدوية بالبراءة والجرح.

محاكمات على قدر كبير من الاثارة حتى ان الاستطلاعات تقول إن أكثر من 50 في المائة من الفرنسيين لا يثقون في محاكمة عادلة طالما أن رئيس الجمهورية نيكولا ساركوزي طرف فيها(طرف مدني)، ضد أحد أبرز خصومه في الماضي والمستقبل رئيس الوزراء الاسبق دومينيك دوفيلبان.

ليس من شك أن صُدَفاً ولقاءات لعبت دورها في القضية... التي ابتدأت قبل الانتخابات الرئاسية في سنة ،2007 التي كان ساركوزي يصر على أنه يفكر فيها كل صباح وهو يحلق ذقنه، والتي كان دوفيلبان أيضا يريد أن يفوز فيها مما يمنح للسلطة بعض مسحة شِعْر وسرقة نار... وليس صدفة أن القضية تعود للواجهة في الوقت الذي بدأت فيه الحملة للانتخابات الرئاسية المقبلة، وعلى الرغم من أن ساركوزي صرّح بأنه لم يعُد يفكر في ولاية رئاسية ثانية أثناء حلاقته الصباحية للذقن، ربما بسبب من يقينية فوزه، فهو يرى أن اليسار المهزوم والمكسور لا يستطيع إيجاد مرشح ندّ له... الخصم سيكون هو دوفيلبان، وستتكرر مأساة اليمين وهو يقدم مرشحين للرئاسة، كما حدث سنة 1995 بين جاك شيراك وادوار بالادور، حيث لعب حينها ساركوزي دور الخائن للأب، وانهزم مع بالادور.

وليس خاف على أحد أن دوفيلبان الذي استعان صراحة بالشعب الفرنسي، وهو يُرافع عن نفسه، جريحاً، ووحيداً، في قاعة المحاكمة وفي ممرات المحكمة وفي مدونته الإلكترونية سيدخل صراع الانتخابات الرئاسية إذا خرج بريئاً (وهي قناعته). وإذا كان ساركوزي قد منعه من المشاركة في الانتخابات الأوروبية الأخيرة، فلن يستطيع هذه المرة منعه من الاحتكام المباشر إلى الشعب الفرنسي.

يحاول الكتاب تفسير المشهد، في وقت يشعر المواطن العادي بارتباك وعدم قدرة على الحكم، وبالتالي لا شيء يمكنه أن يمنع الناس من التعويم ومن قول كل شيء، الشيء ونقيضه. ولكننا بالفعل أمام قضية تثير فضول الكثيرين وخصوصا الكُتّاب والرسامين (الكاريكاتوريين) وغيرهم وحتى المواطنين العاديين، بل وخصوصاً اليسار، فقتال الديكة القاتل بين قطبين من اليمين الحاكم لا يمكنها سوى أن تثير فرحهم وجدلهم.

رئيس جمهورية في نهاية حكمه، ورئيس وزراء ووزراء من بينهم وزير الداخلية، رجال أعمال وأعضاء في الأجهزة السرية ورجال شرطة ورجال مافيا ومغنيات ومجموعة من الصحافيين، بالإضافة إلى نائب رئيس شركة إيداس العملاقة لصناعة الطائرات. كوكتيل قابل للانفجار في قضية كليرستريم مع شبكة وهمية للفساد.

نقرأ في تقديم الكاتب والصحافي الفرنسي فريديريك شاربيي في يوم 17 من شهر ابريل/نيسان 2005 وفي فندق سيروس في مدينة دوفيل الفرنسية، صرح ساركوزي وكان آنذاك وزيراً للداخلية: سأذهب حتى النهاية. ليس لديّ شيء أخسره. سيكون ثمة دم على الجدران. حين سأكون في السلطة سنشنقهم جميعاً في كلاليب الجزار.... وقد أُصيب تجمع الكوادر العليا في مجموعة لاغاردير الذين كانوا يحيطون به بالتجمّد. وخلال مرات عديدة، في مأدبة الطعام هذه، ذكر ساركوزي اسم جون لويس جيرغورين Jean-Louis Gergorin . ولكن هذا الأخير ليس هو الوحيد الموعود بالمشنقة. في القائمة التي أعدّها مَنْ سيكون مرشحا للرئاسة القادمة دوفيلبان، ومدير شرطة باريس ومدير دائرة الاستخبارات العامة وأيضا رئيس إدارة مراقبة التراب الوطني. وقسم مكافحة التجسس الفرنسية. كما أن وريث مجموعة لاغاردير أصيب بالذهول. نظرته المنزعجة. إذ إنّ لويس جيرغورين ليس نكرة. إنه نائب رئيس EADS العملاق الفرنسي الألماني للفضاء وصناعة الطائرات، الذي كان، إلى أن توفي جون-لوك لاغاردير، أحد أقرب مستشاريه. لم يتفوه الوريث ببنت شفة.

مرت أربع سنوات على الحادثة، ولم ينس ساركوزي كما أنه لم يغفر، على الرغم من أن دوفيلبان تصوّر في لحظة ما أنه سيفلت من محاكمة كليرستريم، في حزيران/يونيو ،2008 حين قدّرت النيابة العامة أن الدور الذي يُنسب له ليس ثابتا بما فيه الكفاية. وبينما كان القاضيان يعودان إلى ملفهما فإن المُقرّبين من دوفيلبان كانوا ينتظرون البراءة. وخلال سنة 2008 ظهرت كثير من العلامات التي تقوي من هذه الفرضية. وهنا أظهر ساركوزي بعض المجاملة ودعا دوفيلبان إلى الإليزيه من أجل استشارته بخصوص مشروع الدستور الأوروبي، بل وكلّفه بتمثيل فرنسا في جنازة الشاعر الفلسطيني محمود درويش. دليل آخر على أهمية دوفيلبان، أن ساركوزي طلب رأيه في ما يخصّ الأزمة الجورجية في صيف 2008. بعض الصحافيين ذهب بهم الخيال إلى تصور دوفيلبان وقد تخلص من فترة العذاب، بل وأكثر من هذا تخيلوه وهو يحل محل برنار كوشنير في وزارة الخارجية، وذهبت الشائعات مأخذها في المؤتمر الصيفي للحزب الحاكم: عودة دومينيك دوفيلبان على جدول الأعمال.

في الخريف احتدمت الشائعة: سيتم تخليص دوفيلبان من المحاكمة. ولكن هؤلاء لا يعرفون ساركوزي، حقيقة. إذ لم تكن لديه أبدا النية في نفض يديه: لقد أطلق هذا الوعد سنة 2005 أمام مدعوّيه في مطعم سيروس. وسيذهب حتى النهاية وهو ما أكدته، بسرعة، المرافعات الجديدة للنيابة العامة. مرافعات أكتوبر/تشرين الأول تشبه إلى حد كبير مرافعات حزيران. وإذا كانت هذه المرافعات قد اعْتُبِرَت في الأشهر الأولى خفيفة بعض الشيء فإنها سرعان ما أصبحت فادحة. ستتم مقاضاة دوفيلبان بتهمة تواطؤ في تبليغ كاذب.

الحقيقة هي أنه لم يكن من الوارد أبدا استثناء دوفيلبان، الذي اكتشف كم كان مخطئاً. فاللطافات والآداب لم تكن سوى حِيَل. دوفيلبان، والشكيمة في وجهه، بُحّ صوتُه من الصراخ ضد الإعدام الإعلامي والقضائي، من دون محاكمة الذي يتهيّأُ في نظره ودان تحقيقاً محرَّفاً.

يريد دوفيلبان أن يوحي بأن قضية كليرستريم لن تكون كما يعتقد البعض. وحسب الخطوط الأولى المعروفة فإن القضية تبدو بسيطة: نائب رئيس EADS ، جون-لويس جيرغورين، ربما يكون مهندس مونتاج مُوجّه لتوريط خصومه في عالم صناعة الطيران والتسلح، ويكون قد عهد بالتفاصيل التقنية إلى اللبناني الاصل عماد لحود، أحد الذين شملهم بحمايته، والذي اختاره، بشكل خاص، لهذه المناسبة. وتحت أوامره، يكون قد أعدّ قوائم لحسابات مصرفية مزوَّرَة، انطلاقا من وثائق حقيقية من غرفة المُقاصّة في اللوكسمبورغ كليرستريم ( منظمة متخصصة في تحويل القيم المنقولة، أي صرف السندات على الصعيد العالمي). هذه الحسابات المزوَّرَة يمكن أن تكون قد شيدت، بواسطة أموال قذرة، شبكة فساد يتداخل فيها رجال مافيا روس والرئيس السابق لشركة تومسون الفرنسية والرجل الثاني في شركة إيرباص وأعضاء في الاستخبارات السرية ومجموعة من الكومبارس متفاوتي الأهمية. يقال إن جون لويس جيرغورين يكون قد ورّط ساركوزي بمباركة وتشجيع من قبل دوفيلبان. (ودائما حسب الرواية) يكون دوفيلبان وجيرغورين، عن سابق علم، إذ كانا على علم بهذه القوائم المزورة، قد وجدا ضالتيهما فقاما بتسليم العدالة ما بين أيديهما قبل أن يستثمراها إعلاميا. جان لويس جيرغورين يتخلص من خصومه في المهنة، في حين أن دوفيلبان يقصم ظهر خصمه(ساركوزي).

هل يقينيات هذا السيناريو تجد شرعيتَهَا في خمسين ألف صفحة من المحضر ومن الكشف والمعاينة والملاحظات ومحاضر التصنت أو المواجهات؟

من أجل التحقق من هذه الاتهامات يتوجب المرور على كل هذا الكمّ وتلقّف القصة من بدايتها بالاعتماد على ما كان بإمكانه، في أفضل الحالات، أن يكون ثابتا، حتى لو باحتمالية نسبية. هكذا نكتشف أنه ثمة، في حقيقة الأمر، أجزاء من القصة لا تزال مجهولة، كما أن أجزاء منها تم تجاهلها عن قصد، وأنّ البعض والبعض الآخر لم يُوضَّح بشكل حقيقي.أربع سنوات من البحث والتقصي لم تستطع محو ألغاز القضية ولا إيضاح مناطقها المعتمة.

كرونولوجيا القصة أظهرت ثغرات. وإن التحقيق لا يحمل أي يقين في ما يخص السؤال المركزي الذي تطرحه اليوم العدالة حول الطابع المتعمد للتبليغ والوشاية. بصيغة أخرى هل كان جون لويس جيرغورين أو دوفيلبان يعلمان أن الأمر يتعلق بتلفيق حين تصدت العدالة لمسألة القوائم المزورة؟ لا يوجد من اتّهام آخر مُوجَّه إليهما. التحقيق لا يُجيب، إلاّ جزئياً، عن الأسئلة التي طرحها ساركوزي نفسه في ربيع سنة ،2006 كان ساركوزي وهو يغادر القطب المالي من المحكمة يريد أن يُلْقى الضوءُ على القضية، وأن يعرف من هو الذي وضَع اسمه في القائمة، متى فعل ذلك ولماذا؟ إن أسئلة ساركوزي: متى، ومنْ ولماذا تظل بلا جواب. وأخيرا وهو شيء يثير الحيرة، بعض الطرق تم، ببساطة، تركها من دون استثمار.

دفعة واحدة يخبرنا الكاتب أن القضية ما كانت لتكون لولا هذا التريدر اللبناني عماد لحود. إنه من دون شك الشخصية الرئيسية. وقد تم تقديمه باعتباره عبقرياً صغيراً غامضاً في المعلوماتية. ولكن الشيء الوحيد الذي لا يمكن التشكيك فيه هو أصله اللبناني. عائلته ترتبط كثيرا بالأجهزة والاستخبارات. أبوه، فكتور لحود (مات في فرنسا في 3 يوليو من سنة 1990)، من قدماء تلاميذ مدرسة سومور Saumur حيث اتبع سنة 1975 إعدادا عسكريا قبل أن يخدم في الجيش اللبناني، وبشكل خاص في قسم الاستخبارات العسكرية. أمه، نوال، هي أخت فكتور الخوري الذي احتل منصب قيادة الجيش اللبناني ما بين سنتي 1977 و،1982 والذي أقيل، هذه السنة (1982) من وظائفه من قبل الرئيس بشير الجميل لأنه، كما يُقال، رفض تقديم تسهيلات لدخول الجيش الإسرائيلي إلى لبنان.

نعرف أن عائلة عماد لحود، وخصوصا إخوته درسوا في فرنسا في أفضل المدارس والتخصصات، فالأخ مروان لحود جاء إلى فرنسا في سن السادسة عشرة من العمر من أجل الإفلات من التجنيد الإجباري في قوات الكتائب. وبعد دراسات لامعة تبوّأ مناصب عالية.

وفي آذار/ مارس من سنة 1984 التحقت عائلة لحود مجتمعة بولديها مروان وعماد في باريس. هواء بيروت وضغوط الأخوين بشير وأمين الجميّل، يفسّران هذا المنفى الجماعي المفاجئ والحَذِر، وتجدر الإشارة إلى أن الأخوَيْن لحود حصلا على منحة دراسية من قبل مؤسسة الحريري ولم يتوقف هنا دعم هذه المؤسسة لعائلة لحود إذْ ما بين سنتي 1984 و،1992 دعمت ماليا كل عائلة لحود التي تضررت من تخفيض قيمة الليرة اللبنانية، ولكن عماد لحود ليس لبنانياً صغيراً وغامضاً وهو كذلك ليس عبقرياً في المعلوماتية، كما يُشاع عنه: تخصصه هو الرياضيات. وسواء تعلّق الأمرُ بأقاربه وأهله اللبنانيين، الأثرياء بارتباطهم بقسم الاستخبارات، وبأخيه الأكبر، الذي أصبح أحد الأخصائيين الفرنسيين في صناعة السلاح، أو تعلق الأمر بأصهاره الذين ولجوا وسطي السياسة والأعمال، فإنه لا يمكننا أن نعتبره رجلاً غامضاً.

اشتغل عماد لحود في الكثير من المصارف والمراكز المالية الفرنسية والسويسرية، ولكن طرقه وحيله دفعت به في 22 يونيو من سنة 2002 إلى السجن بتهم التزوير والاشتراك في التزوير. ولكن سقوط هذا الطالب الحاصل على منحة دراسية من قبل مؤسسة الحريري لا ينتهي، وهو الذي يقطن في شقة فاخرة في المقاطعة السابعة عشرة من العاصمة، حيث يقطن بجواره صهر دوفيلبان. التريدر السابق وجد نفسه، بين عشية وضحاها، في القسم الأول من سجن لاسانتي بصحبة إسلامويين راديكاليين ومجرمين كبار ووطنيين من كورسيكا.

يكتب المؤلف في وصف حالة عماد لحود المزرية في السجن: بالنسبة لمسيحي ماروني منحدر من عائلة محترمة، وبعد سبع سنوات من الزواج، والمعتنق للدين اليهودي، فإن حالته هي بمثابة انحدار إلى الحضيض، إلا انه بعد ثلاثة أشهر ونصف خرج عماد لحود من السجن، مقابل كفالة مالية سنوية تصل إلى 400 ألف يورو. وسيجد سنداً مالياً من صهره ولكن تعوُّدَه على حياة البذخ ستجعله في نهاية الأمر يلتجئ إلى أخيه مروان، المسؤول السابق في علم الفضاء، والذي أصبح كادراً مهماً في مجموعة لاغاردير، حيث يعتبر واحدا من أهم المتخصصين في ميدان الصواريخ. وسيعتمد عماد لحود على عقلية العائلة، فيقوم عشية خروجه من السجن بمهاتفة أخيه. فيقوم بنصب مَعالم ما سيعرف، لاحقا، بقضية كليرستريم.

مأدبة عشاء

أبدى عماد لحود الكثير من الندم أمام أخيه الذي لم يكن يرغب في رؤيته. ذهبت لزيارة أخي، ببساطة لأطلب منه القليل من المال ولأطلعه على وضعيتي الكارثية، أبدى ندما على استسلامه للمال السهل. وأضاف بأن السجن علمه الكثير. وأنه يريد أن يخدم بلاده (أي فرنسا). وقد اعترف مروان لحود (8 شباط 2008)، أمام الشرطة أن أخاه عماد لحود: شرح له أنه يتوفر على معلومات يمكن أن تهمّ أجهزة الشرطة والاستخبارات. وعماد يعرف كثيرا عن التمويل السري للشبكات الإرهابية. ويكتب المؤلف: على كل، أليس عماد خبيراً في الشبكات المعقدة للمال الدولي؟ خصوصا في الدائرة الأولى من لا سانتي (سجن)، حيث احتكّ مع معتقلين من الحركة الإسلاموية الراديكالية. البعض منهم تم تقديمهم باعتبارهم مسؤولين عن سلسلة من العمليات التي ضربت فرنسا في التسعينات من القرن الماضي.

يقترح الأخ الأكبر على عماد أن يفتح مكتباً للاستشارات في موضع التهرب المالي. لكن عماد كان يفكر في شيء آخر. ويرى مروان أن أخاه لم يكن يريد المال بقدر ما كان يريد أن يخدم بلده. على الرغم من أن عماد أكد لاحقاً: لم تكن لدي أدنى نية في العمل مع الاستخبارات الفرنسية.

هذا اللقاء الذي جمع بين الأخوين لحود، كان فرصة لمجيء شخص لإلقاء السلام عليهما، ولم يكن سوى جون-لويس جيرغورين، نائب رئيس EADS، ثم انصرف بعد أن طلب من عماد أن يبعث له بسيرة مهنية C V.

لازم عماد أخاه بل وأثقل عليه وأرهقه. وكان يكرر أمام أخيه باستمرار أنه يريد مطاردة الشبكات الإرهابية، ويريد أن يكون مفيداً، ويساعد بلده، كما لو أنه يريد أن يعوّض شيئا ما.

وأخيرا ينصاع مروان أمام إلحاح أخيه. وفي نهاية كانون الأول/ ديسمبر من سنة 2002 يخبر مروان جيرغورين أن أخاه يريد أن يقتسم معلوماته عن شبكات تمويل الإرهابي ابن لادن، إذ إن سنة بعد اعتداءات نيويورك جعلت من ابن لادن العدو العالمي العمومي رقم واحد، وهذا المقترح ليس تافها.

يمنح جيرغورين مروان رقم هاتف خاصا من أجل أخيه عماد، ويتكفل هو شخصيا بربط الاتصال بين عماد وبين الجنرال في الاستخبارات الفرنسية فيليب روندو Rondot. كانت علاقة روندو وجيرغورين قديمة من الوقت الذي أحضر هذا الأخير روندو ليشتغل في وزارة الخارجية في قسم التحليل والتخطيط المستقبلي، في فترة كان يؤلف فيها كتبا مبسطة عن العالم العربي. وهنا يتوقف دور جيرغورين، ويبدأ دور الجنرال روندو.

نشاط الجنرال متشعب ولا يتوقف: من مطاردة الإرهابي كارلوس إلى مطاردة مجرمي الحرب في يوغوسلافيا السابقة. وفي 14 كانون الثاني/يناير من سنة 2003 التقى روندو بعماد لحود في مكتبه في وزارة الدفاع. ومن الوهلة الأولى أُعْجِب الجنرالُ روندو بعماد لحود، بينما كان هذا الأخير يردد على مسامعه رغبته في التكفير عن أخطائه وفي أن يُقدّم لجهاز الاستخبارات الفرنسية ما يمتلكه من معلومات بخصوص الشبكات المالية للإرهابي ابن لادن (...) وقد ادعى بالفعل، أنه التقى مرات عديدة بابن لادن. ويؤكد أن ابن لادن كلفه بفحص شبكات تمويله السرية. وذهب عماد إلى درجة الادّعاء بأنه أخفى في لبنان العديد من الوثائق ويقترح استعادتها، وتسلميها إلى فيليب روندو دليلا على الحس الوطني، لا شيء أكثر من هذا.

يا له من اقتراح يُسيل اللعاب.! جاء الاقتراح، بعد سنة من عمل مُضْن بين الاستخبارت الفرنسية والأمريكية والعديد من الاستخبارات الغربية. وقد استطاعت هذه الخلية تجميع كل المعلومات المتعلقة بالشبكات الإرهابية لابن لادن. معناه أن لحود جاء في الوقت المناسب، إلى حد ان روندو اعتقد أنه من خلال صعود شبكة تمويل أنشطة ابن لادن فإنه يمكن الوصول إلى ابن لادن، أو في أضعف الأحوال تجفيف مصادر تمويله. وعلى الرغم من أنه لم يكن يجهل المشاكل القضائية لعماد لحود ولا فترة سجنه، فإنه رأى أنه من غير المعقول رفض اقتراحه، ولذا لم يتردد روندو طويلا وقرر تشغيل عماد، في اليوم ذاته. وعرّفه على دومينيك شامبتيو Dominique Champtiaux مدير مكتب رئيس جهاز الاستخبارات الخارجية DGSE وعلى Alain Juillet ألان جويي الذي يشتغل في وظيفة مدير الاستخبارات في الجهاز. وفي أول اجتماع جمع المسؤولين الثلاثة للاستخبارات الفرنسية مع عماد لحود، كان نجاحا للأخير.

سيقول ألان جْويي عن ذلك اللقاء الأول: أتذكر بشكل خاص المعلومات التي سمحت لنا بفهم فشلنا المتكرر في مطاردة ابن لادن. لدى الخروج من العشاء، قلتُ لشامبتيو وروندو إنه يتوجب أن نتعامل مع الرجل، لأننا في حاجة إلى هذا المَصدر الواعد. كما أني أتذكر أنه كانت لديه معلومات كثيرة عن لبنان، والمهم هو أن عماد لحود أصبح ضروريا للعمل الاستخباري الفرنسي، وإذاً يتوجب العمل الفعلي.

وبينما كان الجنرال شامبتيو منهمكا في البحث عن ضابط يرافق عماد ويتعامل معه، كان الجنرال روندو، من جهته، يعمّد لحود باسم مدهي، وهذا الاسم كان يبعث بالتقارير إلى الوزيرة الحالية للعدل والدفاع حينذاك ميشيل أليو ماري من تاريخ 20 يناير 2003.

في ذلك اليوم يكتب روندو تقريره المتفائل جدا ويسميه عملية أسامة بن لادن وتحتها عنوان فرعي: اختراق الشبكة المالية لأسامة بن لادن بناء على توصية من أحد مصادرنا العربية (؟)، التي تمّ تحريكها في إطار مكافحة الإرهاب، التقيت يوم 15 يناير [في الحقيقة، كان ذلك يوم 14]، مع شخص عبر عن رغبته في منحي معلومات بالغة الحساسية حول البنيات المالية لأسامة بن لادن.

1- بعد ساعة من اللقاء وفي نهاية التحقق السريع، ظهر أنّ:

أ- أن الشخص المعني كان أحد مستشاري أسامة بن لادن، وهو يعرف جيدا، إلى وقت قريب، العمليات التي أنجزها من أجل استثمار ثروته.

ب- كان على اتصال مباشر مع أسامة بن لادن مرات عديدة، وآخر لقاءاته يعود إلى شباط 2001.

ت- هو مستعدٌّ، مقابل أي تعويضات، ولكن محفّزاته معقدة جدا، لأن يكشف لنا قسما من البنيات المالية التي يعرفها، وبحوزته وثائق تدعم ذلك.

2- ولما كنت أقدّر أني لا أستطيع، من الناحية التقنية، بمفردي أن أتلقى وأقيّم هذه المعلومات فقد نظمت لقاء مع الجنرال دومينيك وألان جويي، يوم 17 يناير، مأدبة عشاء دُعي إليها المُخبر. وقد أقنعت المعلومات التي قدمها هذا الأخير ممثلي الاستخبارات الفرنسية بأننا أمام مصدر ذي قيمة استثنائية سواء تعلق الأمر بمعرفة نظام أسامة بن لادن أو بكونه خبيرا عالي المستوى، قادرا على تحليل بل واختراق هذا العالَم المضطرب الذي هو عالم المال.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"