عادي
التمويل الإسلامي يطرح رؤية آمنة للخروج من الاعصار (3 من 3)

3 حلول تقدم حصانة جزئية للنظام المصرفي في الدول العربية والاسلامية

03:55 صباحا
قراءة 12 دقيقة

حارت العقول والأفهام في تحديد الأسباب ومن ثم الحلول الحقيقية لانهيارات الأسواق التي نجمت عن فقاعة العقارات، أو ما تعرف بأزمة الرهون العقارية . ورغم كثرة الحديث عن المحفزات وخطط الانقاذ، وضخ الأموال إلا أن الأسواق باتت لا تستجيب بشكل مؤثر لتلك الخطط والمحفزات . وكأن فيروس الانهيار يكتسب مناعة ذاتية تجاه مختلف محاولات الانقاذ لجسد الاقتصاد العالمي

المريض . في هذا الخضم يطرح الدكتور معبد علي الجارحي الخبير المالي المعروف ومدير التدريب بمصرف الامارات الاسلامي ورئيس الجمعية الدولية للاقتصاد الإسلامي رؤية حول الأزمة وأسبابها ومظاهرها، والمخرج الآمن منها، عبر دراسة ننشرها على 3 حلقات، ايماناً منا بأهمية الطرح وأصالة الأفكار التي تستند اليها الدراسة التالي نصها .

قد لا يكون التطبيق الفوري للاقتصاد الإسلامي مقبولا سياسيا، نتيجة لضغوط داخلية أو خارجية، وقد لا يكون التكامل الاقتصادي العربي مقبولا أيضا للأسباب نفسها . وإذا كان مالا يُدرك كله لا يترك جله، فلا بد من حلول أقل نجاعة، تقدم حصانة جزئية غير كاملة . والحلول الجزئية تتكون من ثلاثة عناصر، الأول أن نحسن النظام المصرفي المختلط السائد في بعض البلدان العربية والذي يسمح بالتمويل الربوي والتمويل الإسلامي جنبا إلى جنب . وتحسين هذا النظام يتأتى من إدخال المزيد من الإصلاحات على الجوانب القانونية والضريبية وأساليب الرقابة، لكي تكون البنوك الإسلامية والتقليدية على قدم المساواة في المعاملة، ولكي لا تعامل البنوك الإسلامية على أنها بنوك تقليدية . والعنصر الثاني أن ندخل بعض التحسينات على قواعد التداول في الأسواق المالية العربية، يكون حدها الأدنى هو منع البيع القصير بالهامش .

أما العنصر الثالث، فهو أن تزيد وتيرة التعاون الاقتصادي العربي، بحيث نستهدف زيادة التجارة البينية خلال السنوات العشر القادمة إلى ما لا يقل عن نصف حجم التجارة العربية الكلية .

ومن الواضح أن الأزمة الحالية ما تزال في بدايتها . ومن المتوقع تفاقمها بمرور الوقت . لماذا؟ لأن السياسات المعروضة لمعالجة الأزمة لم تتطرق بعد إلى الأسباب الحقيقية وراءها، وهي العيوب المؤسسية الموجودة في النظم الاقتصادية الغربية . ومن الملاحظ من الأزمات الماضية أن الحكومات الغربية ليس لديها الإرادة السياسية الكافية لإدخال تعديلات جوهرية على نظمها الاقتصادية . فمثلا، ليس من المتوقع أن يتوقف العمل بنظام الإقراض الربوي ويستبدل بنظام قريب من نظام التمويل الإسلامي . كما أن منع البيع القصير على المكشوف والشراء على الهامش (التداول بالهامش) الذي قد حدث لا يعد اعترافا بضررهما الدائم، وإنما هو مجرد إجراء مؤقت لإدارة الأزمة لا يعول على استمراره . ولا يعني ذلك أن النظام الاقتصادي الغربي سوف لا يشهد تعديلات، ولكن ما سوف يحدث أن تكون التعديلات في أقل الحدود الممكنة، وفي أمور أكثر سطحية مما تتطلبه معالجة الأزمة .

وفي ضوء ذلك، من المنتظر أن يتساقط المزيد من البنوك والشركات، إما من خلال الإفلاس الصريح، أو من خلال الدمج والاستحواذ . كما نتوقع أن تتزايد موجة الكساد وتستمر خلال بقية العام الحالي، ولا تبدأ حدتها في الانخفاض إلا بعد منتصف العام المقبل، كما يتوقع أن تستمر حالة الشح في السيولة إلى منتصف عام 2009 حينما تبدأ في الانحسار التدريجي، بشرط أن تبادر الإدارة الأمريكية الجديدة بتطبيق بعض السياسات التوسعية الأكثر جرأة مما هو معروض حاليا . والنظر في إمكان إصلاح النظام بدلا من إعطائه المسكنات المعتادة .

إلا أننا نتوقع أن تكون الأزمة الاقتصادية أقل حدة في الدول الخليجية، وإن كنا نخشى أن تواجه بعض الدول العربية غير النفطية ظروفا قاسية قبل الخروج من الأزمة، خاصة الدول التي تعتمد بدرجة كبيرة على استيراد الغذاء والكساء، والمعونات الخارجية، وتعاني حاليا من اختلالات اقتصادية صعبة، تتضمن تضخما في المديونية الخارجية والداخلية، وعجزا في الميزانية والمدفوعات الخارجية، وتضخما في الأسعار، وتزايدا في الفجوة بين الأغنياء والفقراء . كما أن بعض تلك الدول يعاني من فشل ذريع في مواجهة الأزمات الصغيرة، فما بالك بالأزمات الكبيرة!

ولكن، هل تتأثر صناعة الصيرفة الإسلامية بهذه الأزمة؟ من الطبيعي أن يؤدي الفشل الذريع للنظم الاقتصادية الغربية، بدءا بالانهيار المفاجئ للشيوعية، وما صاحبه من اندحار الاشتراكية، ثم ما تبعه من تشقق خطير في النظام الرأسمالي ينذر بانهياره من القواعد، كل ذلك سوف يؤدي إلى توجيه الأنظار نحو النظام الاقتصادي الإسلامي، خاصة الانجازات التي حققتها الصيرفة الإسلامية . ولعل الأثر المنتظر في أول الأمر أن يتنبه ولاة الأمور في الدول الإسلامية إلى أن الإسلام قد قدم إليهم كنزا ثمينا مملوءا باللآلئ والدرر، لم يلتفت معظمهم إليه على الرغم من قربه منهم . ومن الممكن أن يؤدي ذلك إلى اهتمام الحكومات الإسلامية بتنمية وتطوير الصيرفة الإسلامية، واستخدامها كدرع صلب ضد التأثر بالأزمات العالمية .

ولقد أكد المتخصصون في الاقتصاد الإسلامي منذ أكثر من ثلاثين عاما في بحوثهم وأدبياتهم، أن الاقتصاد الإسلامي أكثر كفاءة واستقرارا من الشيوعية والاشتراكية والرأسمالية . وأن التمويل الإسلامي كذلك أكثر كفاءة واستقراراً واتصالا بالتنمية الاقتصادية من التمويل التقليدي المبني على الربا أو الفائدة . والآن وقد تواترت البراهين على ذلك، فقد يعمد المسلمون أخيرا إلى الاستفادة من الصيرفة الإسلامية بصورة أكبر وأكثر فاعلية مما يقومون به الآن .

وإن كان ما يزال من المستبعد أن يقوم الغرب بالتحول إلى الصيرفة الإسلامية، فإن غريزتهم للاتجاه إلى كل ما هو نافع سوف تقودهم إلى فتح الأبواب المغلقة في وجه الصيرفة الإسلامية في بلادهم . ولا نستبعد في هذا المجال أن تحذو فرنسا وأسبانيا وألمانيا حذو بريطانيا في تعديل قوانينها بما يسمح بفتح بنوك إسلامية، كما لا أستبعد أن يحدث ذلك أيضا في الولايات المتحدة الأمريكية، ولو بعد حين .

ولقد أثبتت البنوك الإسلامية في الماضي أنها أكثر استقرارا من البنوك التقليدية، ولكن هذا الاستقرار يتطلب شيئين، الأول هو الحرص على حسن الإدارة، والشيء الثاني أن تحرص البنوك الإسلامية على التزامها الشرعي، وتبتعد عن المنتجات سيئة السمعة، وعلى رأسها بيوع العينة والتورق المنظم .

وإذا توفر ذانكما الشرطان، فإن البنوك الإسلامية سوف تكون في أمان من التأثيرات السلبية الحادة للأزمة، خاصة الإفلاس والتصفية .

ولكن تأثير الكساد شيء آخر، فقد ينعكس في جانبين: الأول انخفاض الودائع أو على الأقل تباطؤ نموها، والثاني مواجهة بعض المستثمرين انخفاضا في السيولة نتيجة لانخفاض الطلب على ما ينتجون من سلع وخدمات .

ولذلك فإن البنوك الإسلامية لا يمكن أن يقع عليها تأثير مباشر من الأزمة المالية العالمية . ولكنها برغم ذلك تعيش في عالم يطغى فيه التمويل الربوي على غيره، ولذلك فلا مفر من أن تتأثر بالعوامل غير المباشرة، خاصة الكساد، كما سبق تبيانه . واقتصار التأثر بالعوامل غير المباشرة يعنى أن البنوك الإسلامية سيكون تأثرها أقل، وقدرتها على الصمود أكثر من البنوك التقليدية .

ولكن كيف تستطيع البنوك والمؤسسات المالية الإسلامية الإبحار بسلام عبر هذه الأزمة؟ قلنا إن البنوك والمؤسسات المالية الإسلامية عليها أن تقوم ببعض الأمور لكي تخفف من آثار الأزمة المباشرة وغير المباشرة عليها، الأول هو الحرص على حسن الإدارة . وتأتي أهمية ذلك من أن البنوك الإسلامية تمر بحالة توسع سريع، فبالإضافة إلى زيادة عددها، فإن بعضها يتزايد حجمه زيادة كبيرة، ويتوسع خارج الحدود إلى دول أخرى . ويخشى أن تفقد الإدارة في تلك البنوك بعض سيطرتها على الأمور، مما يعرضها إلى انخفاض شديد في كفاءة التشغيل . كما أن الإدارة وقت الأزمات تشبه الملاحة بين مياه تكثر فيها الصخور، فهي تحتاج إلى حرص خاص يمنع حدوث صدمات مريعة تودي بالمؤسسة ومن فيها . كما أن هناك عاملا مهما لا يمكن إغفاله، وهو يدخل في باب حسن إدارة المصارف الإسلامية بصفة عامة، وهو تنويع النشاط الاستثماري للبنك الإسلامي، إذ إن تنويع النشاط من المبادئ المصرفية المعتبرة، كما أن البنوك الإسلامية لديها قدرة لا تتاح للبنوك الربوية في تنويع استثماراتها، لأنها تقوم بالاستثمار المباشر، وبتمويل الإنتاج والتجارة وكذلك تمويل احتياجات الأفراد .

و الشيء الثاني أن تحرص البنوك الإسلامية على التزامها الشرعي، وتبتعد عن المنتجات سيئة السمعة، وعلى رأسها التورق المنظم . ويجب على البنوك الإسلامية أن لا تنسى أن اتباع القواعد الشرعية كان وما يزال سر نجاحها، وأن أساليب التمويل الإسلامي المطابقة للشريعة لها مبررات قد تغيب عن البعض أحيانا، ولكنها تظهر آجلا أو عاجلا عندما يواجه العالم مشكلات اقتصادية حادة . وإذا كان من الطبيعي أن تحفز الأزمة الجمهور الذي يتعامل مع البنوك الإسلامية إلى التدقيق في تحري الحلال، فإن البنك الإسلامي الذي يصر على الاستمرار في تسويق المنتجات سيئة السمعة سوف يتعرض بدرجة أكبر إلى تدهور سمعته وفقدان ثقته .

ومن حيث انخفاض أو تباطؤ نمو الودائع، فإن المصارف الإسلامية لديها سلاح فعال لتحفز المودعين على إبقاء ودائعهم أو حتى زيادتها، هذا السلاح هو خفض نصيب البنك بصفته مضاربا من أرباح الودائع . فمن الممكن أن يقوم البنك الإسلامي بخفض تلك النسبة، والتي تتراوح عادة بين 20 و30 في المائة من أرباح الودائع لمدة سنة أو أكثر، بحيث لا يكون تأثر أرباح الودائع بالكساد كبيرا، ولا يثير تخوف المودعين، بل قد يكون من المناسب أن تنخفض تلك النسبة إلى نصفها في أول مراحل الكساد، ثم تتناقص أكثر لتصل إلى الصفر عندما يصل الكساد إلى أقصاه، وبعد ذلك ترتفع بالتدريج حتى تعود إلى ما كانت عليه . المهم أن يحافظ البنك ما أمكن على ثقة وولاء المودعين .

ومن حيث انخفاض الطلب على السلع والخدمات، وتأثير ذلك على سيولة المستثمرين، فإنه من المهم ألا تحذو البنوك الإسلامية حذو البنوك التقليدية من حيث الإصرار على قيام المتمولين بالسداد الكامل في الموعد وفرض الفوائد التأخيرية وغيرها، فهذا الأسلوب سوف يؤدي بكثير من المستثمرين إلى الإفلاس والتصفية، ودخول البنك قسمة الغرماء مع باقي الدائنين، وبالتالي تحمّل مخاطرة مزدوجة تتضمن خسارة المستثمر الذي اضطر إلى الإفلاس، والثاني، التحصيل الجزئي وليس الكلي لما قدمه من تمويل .

والأفضل أن يتعاون البنك الإسلامي مع المستثمرين الذين قام بتمويلهم بأساليب المشاركة والمضاربة لمساعدتهم على تذليل صعابهم وتوفيق أوضاعهم حتى تزول الأزمة، أما بالنسبة للمستثمرين الذين حصلوا على تمويل سلعي، فالأفضل أن تعاد جدولة ديونهم بما ييسر لهم السداد، من دون زيادة في قيمة الدين، وذلك كما تقضي به الشريعة . كما أننا لا ننسى أن استثمارات البنوك الإسلامية تكون غالبا مركزة في القطاعات السلعية، ويكون العائد عليها أعلى من سعر الفائدة، تغطيةً للمخاطر التي لا توجد عادة في حالة بيع النقد بالنقد . وعلى الرغم من أن أسعار الفائدة تتدهور مع الكساد، فإن الهامش بينها وبين معدلات العائد على الاستثمارات الحقيقية يبقى وقد يزيد، وفي هذا مجال لتغطية الآثار المترتبة على مساعدة من يواجهون الإعسار المؤقت على توفيق أوضاعهم .

والآن هناك كلام كثير يشاع حول اندماجات بين البنوك والمؤسسات المالية الإسلامية، فهل يساعد ذلك على تخطي الأزمة؟ الاندماجات يمكن أن تفيد في حالة واحدة وهي اندماج مؤسسة ضعيفة بمؤسسة قوية، وأن تتفوق قوة المؤسسة القوية على ضعف المؤسسة الضعيفة . أو أن تندمج مؤسستان قويتان لينتج عن ذلك مؤسسة أكثر قوة . أما الاندماج بين الضعفاء فهو يشبه إضافة أصفار إلى أصفار، ولا تنتج عن ذلك إلا أصفار أخرى . والآن فقد حان الوقت أن نسال عن مجال تأثر البنوك المركزية بالأزمة؟ البنك المركزي هو القائم على أموال الدولة وهو المسؤول عن سياساتها النقدية، التي تهدف إلى استقرار الأسعار وتخفيف حدة الاختلالات الاقتصادية .

ومن حيث أموال الدولة، فإن البنك المركزي يحتفظ باحتياطيات من العملات الأجنبية . والغالب أن توظف تلك الاحتياطيات في أدوات مالية ربوية تصدرها الحكومات الغربية، مثل سندات الحكومة الأمريكية، وسندات الحكومات الأوربية . وفي هذا الصدد، يواجه البنك المركزي في دولنا نوعين من المخاطر: الأول يتصل بالمحافظة على أصل تلك الاحتياطيات بحيث لا تنخفض قيمتها، التي تتأثر بأسعار الصرف، والثاني يتصل بالعائد الربوي على تلك الاحتياطيات . ومن حيث الحفاظ على قيمة الأصل، فمن الطبيعي أن تحصن البنوك المركزية قيمة احتياطياتها من مخاطر سعر الصرف عن طريق وضعها في سلة من العملات تحسب مكوناتها بدقة، بحيث تقلل ما أمكن من مخاطر تدهور أسعار الصرف . وهذا يحتاج بالضرورة إلى تعويم سعر صرف العملة المحلية أو ربطها بسلة من العملات بنسب تجارة الدولة مع بقية دول العالم . وقليل من الدول العربية من يفعل ذلك، والأغلب، أن ترتبط العملة بالدولار وحده، فيعلو سعر صرفها وينخفض مع سعر صرف الدولار . وهذا يضر بالاقتصاد الوطني ضررا شديدا، ويحرم الدولة من أن تكون لها سياسة نقدية مستقلة، نظرا لاضطرارها لاتباع السياسة النقدية التي يرسمها بنك الاتحاد الفيدرالي الأمريكي . وعلى الرغم من كل ما قيل ويقال كمبررات لهذا الأسلوب، فإننا نؤكد أنه ما من منطق اقتصادي يمكن أن يبرر ربط العملة ووضع كل أو معظم الاحتياطيات بالدولار . ولا يبق في هذا الصدد إلا البحث عن المبررات السياسية التي نتركها للمتخصصين في العلوم السياسية .

أما ما يتصل بالعائد على الاحتياطيات لدى البنك المركزي، فما دامت الاحتياطيات موظفة توظيفا ربويا في سندات الحكومة الأمريكية، فإننا نعلم أن أسعار الفائدة على السندات الحكومية الأمريكية قد وصلت إلى الحضيض، فهي تساوي حاليا 5 .1 في المائة سنويا، ومن غير المستبعد أن تنخفض إلى واحد في المائة، وبالتالي، فإن العائد الربوي لا يغطي معدل التضخم، وهذا يعني أن القيمة الحقيقية للاحتياطيات تتآكل بالتدريج . والكاسب هو الخزانة الأمريكية، والخاسر هو المواطن العربي الذي له حق ثابت في تلك الاحتياطيات .

وهناك عامل اقتصادي آخر، وإن كان له جانب سياسي، وهو أن الحكومة الأمريكية لن تسمح لأي دولة عربية ببيع ما لديها من سندات بكميات كبيرة، بغية التحول من الدولار إلى عملة أخرى، بحجة أن هذا يضر بالمصالح الأمريكية، وهو منطق عجيب لأن المصلحة الجديرة بالاعتبار هي مصلحة الدولة المالكة للاحتياطيات وليست المضيفة لها . وهذا يذكرنا بالأرصدة المصرية التي تراكمت لدى الخزانة البريطانية وقت الحرب العالمية الأولى، وتم الإفراج عنها قطرة قطرة، بعد أن فقدت الكثير من قيمتها بفعل التضخم، كما أن العائد الربوي عليها لم يكن ذا بال .

ومن الممكن أن ندعو البنوك المركزية إلى استرداد احتياطياتها واستثمارها استثمارات متوافقة مع الشريعة تكون على قدر كبير من السيولة . وهذا ليس بالأمر المستحيل، ولكن لا نتصور أن هذا الموضوع يمكن أن يطرح في الوقت الحاضر .

وماذا عن الضغوط على العملات الخليجية، هل تخف أم تزداد وقت الأزمة؟ العملات الخليجية التي استقلت جزئيا عن الدولار، كالدينار الكويتي، تكون في وضع أفضل من غيرها، بشرط الابتعاد عن الاستثمار في السندات الحكومية من أي نوع، وابتداع أساليب جديدة وغير تقليدية لاستثمار تلك الأموال في القطاع الحقيقي استثمارات قصيرة الأجل تدر عائدا أفضل من أسعار الفائدة . أما العملات التي مازالت ترتبط بالدولار، فلا نجد علاجا لها سوى فك الارتباط قدر الإمكان، وبقدر ما تسمح به الظروف السياسية .

ولكن كيف يخرج العالم من الأزمة؟ حل الأزمة ممكن وسهل، ولكنه غير محتمل، ويتلخص في الاعتراف بفشل النظام الرأسمالي وانضمامه مع شقيقيه الشيوعي والاشتراكي إلى نادي النظم الفاشلة، ومن ثم وضع خطة للتحول إلى النظام المالي الإسلامي يمكن تنفيذها خلال عامين . هل تقبل الدول الغربية هذا الحل؟ وهل تقبل الدول العربية هذا الحل؟ لا نرى أملا كبيرا في ذلك، بل قد يحتاج الأمر إلى تكرر مثل هذه الأزمة بصورة متزايدة الحدة قبل أن تصحو الحكومات من الغفوة المعاصرة . وعلى الأقل، فإن على الدول الغربية أن تفتح أبوابها للتمويل الإسلامي وتدخل في إطار النظام المالي المزدوج الذي تعمل فيه البنوك الإسلامية جنبا إلى جنب وعلى قدم المساواة مع البنوك التقليدية، وأن تقوم الدول العربية التي قبلت هذا النظام من حيث المبدأ بتوفير البيئة المواتية للتمويل الإسلامي وإعطائه فرصة مكافئة لما تعطيه التمويل التقليدي .

وأخيرا وليس آخرا، هل هناك مستفيدون من هذه الأزمة؟ المستفيدون أطراف عدة: على رأسها البنوك والمؤسسات المالية الضخمة التي ارتكبت خطأ شنيعا في الإقراض العقاري الرديء ثم تمكنت من الحصول على أموال هائلة لتصحيح أخطائها من دون أن تتحمل من جانبها أية تكاليف، أي أنها هبطت من طائرة توشك على السقوط باستخدام مظلة هبوط من الذهب الخالص .

ومن المستفيدين أيضا المقامرون الذين سبق وأن باعوا الكثير من الأسهم بيعا قصيرا بأسعار مرتفعة، والآن يشترونها بأبخس الأثمان، ليجنوا الملايين من مصائب الناس .

ومن المستفيدين أيضا سماسرة الأسواق المالية الذين تمكنوا من جني عمولات ضخمة خلال التبادل المحموم في تلك الأسواق من جانب من يحاول التخلص من أسهمه قبل وقوع الواقعة .

ومن المستفيدين أيضا السياسيون الذين قبضوا أجر ما صاغوه من قوانين لدعم المؤسسات المالية الكبيرة، إما على هيئة تبرعات سخية لحملاتهم الانتخابية، أو على هيئة منافع أخرى ظاهرة وباطنة .

ولعل أكبر المستفيدين هو حكومة الولايات المتحدة التي تتلقى معونة من كافة مقرضيها من الغافلين حملة الدولار، سواء كان ذلك الدولار في جيوبهم، أو في حساباتهم المصرفية، أو موظفا في سندات وأذون الخزانة الأمريكية بفائدة تقل عن معدل التضخم .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"