عادي
التمويل الإسلامي يطرح رؤية آمنة للخروج من الإعصار (2 - 3)

النظام الاقتصادي الغربي معتل وآيل للسقوط والأزمة لا تزال في بدايتها

04:00 صباحا
قراءة 12 دقيقة

حارت العقول والأفهام في تحديد الأسباب ومن ثم الحلول الحقيقية لانهيارات الأسواق التي نجمت عن فقاعة العقارات، أو ما تعرف بأزمة الرهون العقارية . ورغم كثرة الحديث عن المحفزات وخطط الانقاذ، وضخ الأموال إلا أن الأسواق باتت لا تستجيب بشكل مؤثر لتلك الخطط والمحفزات . وكأن فيروس الانهيار يكتسب مناعة ذاتية تجاه مختلف محاولات الانقاذ لجسد الاقتصاد العالمي

المريض . في هذا الخضم يطرح الدكتور معبد علي الجارحي الخبير المالي المعروف ومدير التدريب بمصرف الامارات الاسلامي ورئيس الجمعية الدولية للاقتصاد الإسلامي رؤية حول الأزمة وأسبابها ومظاهرها، والمخرج الآمن منها، عبر دراسة ننشرها على 3 حلقات، ايماناً منا بأهمية الطرح وأصالة الأفكار التي تستند اليها الدراسة التالي نصها .

النظام الاقتصادي الإسلامي يجعلنا في غير حاجة إلى الاستمرار في استيراد نظام اقتصادي معتل، بل آيل للسقوط . فإذا نظرنا إلى الملامح الأربعة التي سبق أن ذكرناها حول الاقتصادات الغربية، نجد نقيضها في النظام الاقتصادي الإسلامي . أولا: النظام الاقتصادي الإسلامي يعطي مساحة كبيرة للحرية الاقتصادية في كافة القطاعات، ولكنه يمنع الاحتكار ولا يتجاهل العدالة الاجتماعية، ثانيا: يعتمد نظام التمويل الإسلامي على أسس سلعية واستثمارية في توزيع الموارد المالية . ثالثا: أن التجارة في المخاطر، أو ما يسميه الفقهاء عقود الغرر، محرمة صراحة، رابعا: أن بيع الديون لا يجوز إلا بقيمتها الاسمية . ولتفصيل ذلك بصورة موازية لما قلناه حول الاقتصادات الغربية، نقول ما يلي:

أولا، من حيث الاهتمام المعتدل بالحرية الاقتصادية، فإنه يتيح مساحة أكبر لأن تمارس الدولة إجراءات فعالة للتضبيط والرقابة في الاقتصاد، منعا لانحرافات الأسواق، خاصة في مجالات الاحتكار والمضاربات القمارية، فللسلطات الرقابية أن تبيع ما لدى المحتكر من السلع بسعر السوق رغما عنه، منعا لاستغلال الجمهور . وبالنسبة للعدالة الاجتماعية، يعتمد الإسلام نظاما لإعادة توزيع الثروات يتم تفعيله دوريا كل عام بما يقلل تدريجيا الفروق بين الغني والفقير، فنظام الزكاة مثلا مبني على إغناء وليس مجرد إطعام الفقير . وبالإضافة إلى الزكاة، هناك نظم للأوقاف والفيء والصدقات وغيرها .

ثانيا، أن الاعتماد على الأسس الاستثمارية والسلعية في تخصيص الموارد المالية، يؤدي إلى إعطاء الكفاءة الاقتصادية الدور الأول في تخصيص الموارد . فالمصارف الإسلامية لا تقوم بالإقراض، وإنما تقدم تمويلا سلعيا أو تمويل بالمشاركة والمضاربة والوكالة . فمن حيث التمويل السلعي، يحصل المتعامل على سلع تسلم حالا مقابل ثمن آجل، أو يحصل على ثمن حالاً مقابل تسليم آجل للسلع . وكذلك يمكن أن يحصل المتعامل على الموجودات والمنافع والخدمات من خلال صيغ الإجارة التشغيلية والتمويلية . وبالإضافة، يمكن أن يحصل المتعامل على تمويل لمشروعه عن طريق المشاركة أو المضاربة أو الوكالة، ولكل منها أكثر من صيغة . وهكذا فإن عملية التمويل تصبح أبعد ما يكون عن بيع نقد ناجز بنقد آجل، إذ ينصب اهتمام البنك الإسلامي على قدرة المتمول على السداد، التي ترتبط بعاملين: الأول جدوى استخدام المال وربحيته المتوقعة من جانب، والملاءة من ناحية أخرى . ويكون التركيز على جدوى الاستخدام بدرجة أكبر . وبذلك فإن المصارف الإسلامية هي أبعد ما تكون عن مؤسسات الوساطة المالية، لأنها تأخذ الودائع من الجمهور على أساس المضاربة والوكالة، وتستخدمها في التمويل بأساليب لا تتضمن الإقراض الربوي .

ثالثا، المتاجرة تكون في السلع والخدمات وحقوق مباحة أصلا، باستثناء السلع والخدمات المحرمة . أما العقود التي تشمل المستقبليات والمشتقات وغيرها مما يستخدم في تجارة المخاطر، فهو ضرب من المقامرة المحرمة . وبالنسبة إلى الأساليب المستخدمة في هذا المجال، فإن البيع القصير يقع في إطار بيع ما لا يملك وهو محرم شرعا، ولأن الربا محرم وهو من أكبر الكبائر، فإن كل أنواع الشراء بتمويل ربوي لا تجوز، وهذا يشمل الشراء بالهامش . كما لا يجوز أيضا تأجيل كلا البدلين في البيع . ومن الواضح أن تطبيق تلك القواعد يحد من المضاربات السيئة التي تؤدي إلى عدم يقف وراء الاختلال الاقتصادي .

ولهذا فإن الأسواق المالية في ظل نظام التمويل الإسلامي ليست قاعات للمقامرة، وإنما هي أسواق هادئة يتم فيها تبادل الأدوات المالية بصورة نظامية، بعيدا عن المضاربات المبالغ فيها، وهي بالتالي ليست مكانا يرتع فيه الباحثون عن الربح السريع واللقمة السهلة السائغة .

رابعا، من الواضح أنه عندما يقوم بنك إسلامي بتقديم تمويل بالمرابحة، أو من خلال البيع بثمن آجل، فإن الدين الناجم عن ذلك التمويل لا يمكن بيعه . والسبب في ذلك أن الشريعة تمنع بيع الدين بثمن يختلف عن قيمته الاسمية، وهذا ينفي الغرض الأساسي من وراء بيع الدين وهو بيعه قبل موعده مقابل التنازل عن جزء منه (خصم أو حسم الديون)، أو بيعه بزيادة عن قيمته الاسمية نتيجة لأنه كان قد انعقد بسعر فائدة أعلى من سعر الفائدة السائد في السوق . وبالتالي، لا يؤسس التمويل الإسلامي سوقا متكاملة للتجارة في الديون على نسق سوق السندات حاليا . وبذلك يكون قد انتفى تماما أكبر مصدر للاختلال الاقتصادي والعدوى . ويتضح دور التعامل الربوي في إحداث الأزمة الحالية، فيما قلناه من قبل من أن تداول الديون في أسواق عالمية منظمة هو مصدر مهم لعدم الاستقرار والعدوى . كما ألمحنا إلى أن نظام التمويل الربوي، على خلاف نظام التمويل الإسلامي، نظام غير قابل للاستمرار، ونقول أيضا إنه نظام مفكك وغير متماسك . وهذا من أسباب الوقوع المتكرر في حفر الأزمات الاقتصادية . وتحتاج تلك الملامح الثلاثة لبعض الإيضاح .

فمن ناحية وجود أسواق منظمة لتبادل الديون، فإن ذلك يفسح المجال لما يسمى الأموال الساخنة، وهي رؤوس الأموال التي تبحث عن الربح السريع، فتدخل في سوق الديون في دولة معينة بسهولة وفي وقت قصير، سعيا وراء أسعار فائدة أعلى . وحينئذ يتحسن سعر صرف عملة الدولة، وتنتعش فيها الأحوال الاقتصادية . وتشارك الدول الأخرى التي ترتبط اقتصاداتها بتلك الدولة في الاستمتاع بذلك الانتعاش . وعندما تتغير توقعات أصحابها حول اتجاه أسعار الفائدة، تهرول إلى دول أخرى، وبالتالي تترك الدولة الأولى في حالة يرثى لها، فتنهار عملتها، وتتكدر أحوالها الاقتصادية . وتنتقل العدوى بالمثل إلى الدول المرتبطة اقتصاديا بها . ولذلك فتداول الدين، الذي هو قاعدة أصلية من قواعد التمويل الربوي مصدر كبير للاختلال الاقتصادي والعدوى . ويلاحظ أن التمويل الإسلامي لا يسمح كما قلنا من قبل بتبادل الديون في سوق منظمة، وبذلك ينتفي مصدر الاختلال والعدوى تماما .

أما عدم قدرة نظام التمويل الربوي على الاستمرار، فإن قيمة الدين في هذا النظام لا تحدد سلفا . فمثلا يقترض فرد مليونا من الدراهم بسعر فائدة 10 في المائة مقسطة على خمس سنوات . فإن قام بالسداد في الموعد، فبها ونعمت . أما إذا تأخر في سداد أحد الأقساط، فتفرض عليه فوائد تأخيرية قد تصل إلى ضعف سعر الفائدة الأصلي أو تزيد، كما أن فترة السداد تطول، وبالتالي تزيد قيمة المديونية . وفي هذه الحالة يجد المقترض صعوبة في السداد . أما إذا تكرر تأخيره عن السداد، فإن الفوائد التأخيرية تزيد وفترة سداد الدين تطول أكثر وأكثر . وهذا يدخل المقترض في فخ المديونية، بحيث لا يستطيع الفكاك طوال حياته . وقد يضطر الكثير من المقترضين إلى إعلان إفلاسهم للتخلص من ديونهم . وهذا يكلف البنوك الربوية الكثير، وقد يؤدي إلى إفلاس بعض البنوك وتساقطها واحدا بعد آخر . وعندما تتفاقم مشاكل مديونيات المتعاملين، تجد البنوك الربوية نفسها في مأزق لا تستطيع الخروج منه إلا بمعونة الحكومة، أي على حساب دافعي الضرائب المغلوبين على أمرهم .

أما في ظل التمويل الإسلامي، فإن الديون التي تترتب على التمويل السلعي بالمرابحة والبيع بثمن آجل لا يمكن زيادة قيمتها بحال من الأحوال، وإذا حدث إعسار لأسباب خارجة عن إرادة المدين، فتتم إعادة جدولتها دون أية زيادة . أما المدينون المماطلون الذين يتظاهرون بالإعسار وهم قادرون على السداد، فتفرض عليهم غرامات توجه حصيلتها لأعمال الخير، إذ لا يجوز أن تستفيد منها البنوك الإسلامية .

ولكي نشرح أسباب تماسك نظام التمويل الإسلامي وتفكك النظام الربوي، يمكن أن نشبه التمويل الإسلامي بالمباريات الجماعية التي يشارك فيها كل فرد، ولا يهتم أحد بمجرد المشاهدة . فمن ناحية، يشارك المودعون من أصحاب الأموال المصارف الإسلامية في المخاطر المرتبطة باختيار الاستثمار المناسب ومدى تحقيقه للنجاح . وتشارك المصارف ومؤسسات التمويل بدورها في المخاطر التي يتعرض لها مستخدمو الأموال .

وهكذا تتوزع المخاطر على عدد أكبر وأكثر تنوعا من الأفراد ذوي الصلة بعملية الاستثمار، كما أن المشاركة في المخاطر يقابلها في نفس الوقت مشاركة في اتخاذ القرار . وتؤدي المشاركة في المخاطرة على نطاق واسع، إلى توزيع المسؤولية، بحيث لا تثقل كاهل أحد دون أحد، وبالتالي يكون نصيب الفرد منها أخف، واعتماده على غيره أكبر، ويصبح الاقتصاد الوطني أكثر تماسكا، لأنه قد صار أكثر قدرة على مواجهة الصدمات دون أن تصيبه في مقتل . وهذه هي الميزة الخامسة .

أما التمويل الربوي، فهو أشبه بمباريات النظارة، التي تنشط فيها مجموعة قليلة من اللاعبين المحترفين داخل الملعب، و يكتفي الحشد الكبير بمتابعة اللعب من الخارج . فالمصارف والمؤسسات المالية تأخذ من أصحاب الأموال قروضا مضمونة الأصل والعائد، وتقدم لمستخدميها قروضا مؤمنة برهون وضمانات . وهكذا تترك المخاطرة ليتحملها قلة من مستخدمي الأموال . وبالتالي يصبح الاقتصاد مفككا، لأن الكثرة غير معنية بما يحدث للقلة . وعندما تواجه المصارف والمؤسسات المالية التقليدية صعوبات من أي نوع، لا نجد أحدا من الجمهور يساندها، لأنهم لا يشاركون في اتخاذ القرار، وبالتالي لا يشاركون في المخاطر . ولهذا فبمجرد أن تلوح في الأفق مقدمات مشكلة ما، تبدأ تلك المؤسسات في التساقط، حتى ينفرط عقد النظام بأكمله، ما لم تتدخل الحكومة لٌلإنقاذ قبل فوات الأوان .

وبالطبع، فإن هذا التحليل يشير بوضوح إلى وجوب أن تتبنى الدول العربية نظام التمويل الإسلامي فورا ودون تأخير، ولكن قد يرد على ذلك بأن الخطر الذي يتهددنا يعود إلى انهيار أسعار النفط، وليس إلى التمويل الربوي بالذات . ولكن إذا كان من الممكن القول إن أسعار النفط قد انخفضت، فإنه يصعب أن نقول إنها قد انهارت في بداية الأزمة . فنحن لا ننسى أن تجاوز أسعار النفط حاجز المائة دولار للبرميل كان بسبب المضاربات التي ارتبطت بالقلاقل السياسية في منطقتنا العربية، والتي تزايدت حدتها مع احتلال العراق . ولا بد أن نوضح أن الأسعار المعلنة والتي ارتفعت قبل الأزمة، ليست الأسعار التي يتم التعامل عليها في السوق، فالدول النفطية تبيع بأسعار تعاقدية تختلف باختلاف نوع النفط وشروط تسليمه . أما الأسعار المعلنة فهي أسعار التعامل في العقود المستقبلية التي تسود في الأسواق مثل سوق نيويورك للسلع، وهي أسعار يتعامل بها المضاربون، وإن شئت فقل المقامرون في السوق . ولذلك نجد أن متوسط الأسعار التي باعت بها دول الخليج نفطها خلال عام سابق من الآن تقارب 80 دولارا . وهو رقم لا يبتعد كثيرا عن السعر السائد في أسواق العقود المستقبلة بعد أيام قليلة من اندلاع الأزمة . أما انخفاض أسعار النفط بعد ذلك، فسببه الكساد الذي تيقن الكثيرون أنه آت لا محالة، فهو نتيجة الأزمة وليس سببا لها .

ولذلك مصدر الخطر الحقيقي يكمن في الكساد المتوقع، الذي يمكن أن يؤثر في صادرات الدول العربية دون تمييز، بما في ذلك انخفاض الطلب على النفط . كما أن انخفاض حصيلة صادرات الدول النفطية سوف يقلل من تدفقات المعونات التي تقدمها هذه الدول لشقيقاتها العربية، وبالتالي تزداد معاناة الجميع . فالعدوى التي سوف تأتي، سوف تكون بفعل الكساد وما يصاحبه من تدهور .

وهناك أسئلة أخرى تثار حول نفس الموضوع، منها ما يتصل بدوافع البنوك الأجنبية التي تفتح فروعا لها في الخليج، ومنها ما يتصل بأوضاع الأسواق المالية في بلادنا وغير ذلك .

فما هي دوافع البنوك العالمية من وراء فتح فروع لها في بلادنا؟ تكمن دوافع تلك البنوك، في سببين رئيسيين . السبب الأول أن خصائص المنطقة الخليجية تختلف عن مثيلاتها في الدول الغربية، فالدول الخليجية مصدرة لرأس المال، كما أنها تستورد العمالة غير العربية بكثافة . وبالتالي تعمل البنوك العالمية على استقطاب رؤوس الأموال من الخليج إلى البلدان الأخرى والاستفادة من الفوائد والعمولات التي تجنيها من جراء الوساطة بين أصحاب رؤوس الأموال في الخليج والمقترضين في الدول الأخرى . كما تستفيد أيضا من خدمة العمالة غير العربية في مجالات تحويل الأموال واستثمارها . والسبب الثاني هو اكتشاف التمويل الإسلامي ورغبة المواطنين العرب والمسلمين الذين يعيشون في دول الخليج في الاستفادة من خدمات ذلك التمويل . ولذلك يعمد الكثير من تلك البنوك إلى تصميم منتجات مالية إسلامية بمساعدة الخبراء المسلمين، ثم تسويقها في الخليج .

ولكن إذا لم تكن لدينا مشكلة الرهون العقارية، فلماذا تعاني أسواقنا المالية من مثل ما تعانيه الأسواق المالية في العالم الغربي؟ العامل اللافت للنظر أن الأسواق المالية العربية والخليجية تتبع نفس القواعد والأساليب المتبعة في الأسواق المالية العالمية، وذلك باستثناء سوق وحيد فريد، وهو سوق دبي المالي، الذي يعيد صياغة معاييره وقواعد التداول فيه، بما يتوافق مع الشريعة الإسلامية . ولهذا الغرض، نجد له هيئة شرعية وهي بصدد إنشاء رقابة شرعية لمساندة أعماله . وكما ذكرنا من قبل، فإن الأسواق العالمية تتبنّى عددا من قواعد التعامل تشجع على المضاربات القمارية وتزيد من حدتها، مثل بيع ما لا يملك، وربح ما لا يضمن، والتمويل الربوي، وغيرها . وكما أن الأسواق المالية العالمية قد أصبحت موائد للقمار، وامتلأت بالمقامرين من كل حدب وصوب، فكذلك أسواق المال في الدول الخليجية وغيرها من الدول العربية . وبالتالي فإن عوامل الخوف من انهيار المؤسسات المالية التي انغمست في الديون العقارية الرديئة، قد هز قلوب المقامرين في الأسواق المالية الخليجية والعربية، بقدر ما اهتزت قلوب رفاقهم في الأسواق المالية العالمية . وكأن موائد القمار قد امتدت بين الغرب والشرق .

وفي هذا الصدد، لا ننسى أن أسواق المال في الغرب كما هي في الخليج وبقية الدول العربية مفتوحة للمواطنين والأجانب، فمنهم من يقامر في أسواقنا، ومنا من يقامر في أسواقهم . ولذلك، فإن أسواقنا وأسواقهم تتأثر بعوامل مشتركة تجمع بينها وإن اختلفت البلاد .

والآن هل أصابنا من أزمة الديون العقارية شيء؟ هل اشترى منها بعض بنوكنا؟ الحقيقة أنه بعد أن عقدت البنوك الغربية التمويلات العقارية الربوية سيئة السمعة، ونجم عنها الديون الرديئة، التي لا تكفي ضماناتها العقارية لتغطيتها، والتي لا يستطيع المدينون بحال من الأحوال أن يسددوها، عمدت تلك البنوك إلى تجميل تلك الديون بتحويلها إلى أصول مالية تخفي طبيعتها الرديئة، وقاموا بإصدار سندات دين مبنية عليها، بمعنى أنها تمثل حقوق ملكية في تلك الديون، وبيعت تلك السندات في الأسواق، وتهافتت عليها البنوك في كل مكان . فاشترتها كثير من البنوك الأوروبية والآسيوية، ووقعت في شراكها بعض البنوك العربية . وللأسف الشديد، ليس لدينا معلومات كافية عن البنوك العربية التي اشترت تلك الديون . ومما يزد الصورة ضبابا وتعكيرا، أن الشفافية في بلادنا غير كاملة، ومن الممكن إخفاء الحقائق بسهولة ومن ثم نسيانها تماما . وقد يكون القصد من إخفائها الخوف من أن يُصدم الجمهور في قدرة المصارف على التمييز بين الغث والسمين، والخوف من أن يفقد الجمهور ثقته بالنظام المصرفي، وينفلت الأمر من بين أصابع السلطات النقدية، فينينهار النظام من قواعده .

كل ما نرجوه، أن تكون المصارف التي تورطت في شراء الديون الرديئة لم تشتر بكميات كبيرة تبتلع الكثير من الأرباح على هيئة مخصصات ضخمة، بحيث تمتص سيولة هائلة، وتترك البنوك المتورطة عاجزة عن سداد التزاماتها، ومن ثم تتهدد بالإفلاس .

أما البنوك الإسلامية، فقد حمتها الشريعة الغراء التي تلتزم بها في أعمالها من الوقوع في شراك الديون الرديئة، لأن الشريعة تمنعها من المتاجرة في الديون . ولقد حاولت بعض الأطراف المالية الغربية التغرير ببعض البنوك الإسلامية، ولكن أدهشها أن الرفض كان سريعا وحاسما وغير قابل للنقاش، ولم يكن على البنوك الإسلامية إلا أن تشرح باختصار للبنوك الغربية طبيعة التمويل الإسلامي .

وفي ضوء ذلك، إذا أرادت الدول العربية أن تحصن نفسها ضد هذه الأزمة الحالية وأمثالها، فالأفضل أن تحول نظمها المالية والنقدية إلى النظام الإسلامي . وهذا يمكن تحقيقه في أي دولة خلال ما لا يزيد على عامين، إذا توفرت الإرادة السياسية والإعداد المناسب . كما على الدول العربية أن تعمد إلى إزالة جميع العوائق أمام حركة السلع وعوامل الإنتاج، خاصة رؤوس الأموال والعمالة فيما بينها . وأن تهيئ الظروف المواتية لاستقبال الأموال والعمالة من الدول العربية بما يحقق نموا اقتصاديا حقيقيا، ويزيد من التبادل التجاري البيني، أي أن يزيد انفتاح اقتصادات الدول العربية على بعضها بعضاً بدلاً من انفتاحها على الغرب .

وفي الوقت نفسه، على الدول العربية أن تضع برامج للتنمية الاقتصادية والاجتماعية على مستوى الإقليم، يكون هدفها الأول بناء اقتصاد متنوع ومتماسك، يستطيع أن يحقق متطلبات الرفاهة لمواطنيه . وهذا هدف يمكن تحقيقه خلال عشرة أعوام على الأكثر .

وفي العادة لسنا متشائمين ولا يجوز لنا أن نتشاءم، ولكن قد لا يكون التطبيق الفوري للاقتصاد الإسلامي مقبولا سياسيا، نتيجة لضغوط داخلية أو خارجية، وقد لا يكون التكامل الاقتصادي العربي مقبولا أيضا للأسباب نفسها . وإذا كان مالا يدرك كله لا يترك جله، فلا بد من حلول أقل نجاعة، تقدم حصانة جزئية غير كاملة . والحلول الجزئية تتكون من ثلاثة عناصر، سنتحدث عنها تفصيلياً في الحلقة القادمة بإذن الله .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"