البوتينية في روسيا دائماً منتصرة

04:34 صباحا
قراءة 3 دقائق
جميل مطر

زرت جميع الدول المهمة، مهمة من وجهة نظري، باستثناء روسيا. اقتربت مرات عديدة من حدودها ولم أعبر. صادقت كثيرين من دبلوماسييها وصحفييها وكتّابها. قرأت عنها ومنها ولا شك أنني تأثرت بآدابها مثلما تأثر العديدون من أبناء جيلي. كانت متعة ونحن في سن الشباب دراسة فلسفة وأسس الحكم في روسيا. وكانت مشقة وعذاباً محاولة التعرف على دخائل العلاقات بين أعضاء النخبة الروسية الحاكمة. أجاد الأصدقاء الروس إخفاءها في العصر السوفييتي وبالغ الأصدقاء في العصر البوتيني في التعتيم عليها. وفي الحالتين كان التعرف يستحق الجهد، ففي مثل هذه الأنظمة السياسية، أنظمة حكم الرجل الواحد والحزب الواحد، يصعب حتى يكاد يستحيل استشراف مستقبلها بدون التعرف على طبيعة العلاقات بين أعضاء النخبة المحيطة بشخص الرئيس أو بقيادة الحزب الحاكم.
جرت في روسيا قبل يومين عملية تصويت بهدف تجديد أمر سياسي واقع. الرئيس فلاديمير بوتين يشعر أنه لم يحقق كل ما يرومه من أهداف فأراد تجديد ولايته لفترة دستورية أخرى فكان له ما أراد. من ناحيتي أعرف أن واجبي أن أكون موضوعياً ما أمكنني، فالتزام الموضوعية في الكتابة السياسية صعب وإن بدا في الكلام سهلاً. عندما أقول إن الرئيس بوتين أراد تجديد ولايته كان يجب أن أضيف أن أغلبية في صفوف شعوب روسيا أرادت الشيء نفسه. الناس هناك، أو نسبة معتبرة منهم يريدون أن يبقى الرئيس بوتين، وليس أي شخص آخر، في قمة الحكم حتى سنة 2024 وربما أكثر إن سمحت ظروف الرئيس. بهذا المعنى لم تكن «الانتخابات» الرئاسية في روسيا بالنسبة لي مصدر إثارة أو دافع تغيير أو إضافة أكاديمية ولكنها كانت وستظل كاشفة ومؤكدة لقناعات معينة عن روسيا وموقعها في نفوس شعبها أو شعوبها وأسس الحكم فيها وكذلك موقعها في العالم.
لا مبالغة كبيرة في القول بأن الكراهية للغرب كانت الطاقة التي شجعت الناخب الروسي على أن يخرج في يوم قارس البرودة وفي درجة حرارة تحت الصفر لينتخب الرئيس القائم منذ سنوات عديدة رئيساً لفترة جديدة. لم تكن هناك حملة انتخابية بالمعنى السائد ولكن المتابعة العادية لمنتجات الإعلام الروسي خلال الأسابيع الأخيرة كشفت لي عن طفرة في المعلومات عن الغرب بعضها مبالغ فيه أو معالج بتدخلات شتى. وكشفت أيضاً عن عمق وانتشار الرأي المناهض للغرب. كادت الحملة ضد الغرب تطغى على إنجازات بوتين الداخلية والخارجية. تأكد حدسي من أمرين غير متصلين. حددت الهيئة العليا للانتخابات يوم 18 مارس موعداً لإجراء الانتخابات. لماذا 18 مارس؟ بحثت وتقصيت لأكتشف أن تحديد هذا الموعد تم بناء على اقتراح من «حزب روسيا المتحدة»، الحزب المساند بشدة للرئيس بوتين، وربما جاء الاقتراح من الرئيس شخصياً بهدف الاحتفال بالذكرى الرابعة لاحتلال روسيا شبه جزيرة القرم، وبمعنى روسي أدق، ذكرى استعادة القرم للوطن الأم.
لا ننسى أن بوتين باستعادته شبه جزيرة القرم كان يحقق للشعب الروسي انتصاراً «تاريخياً وقومياً» على الغرب، الغرب الذي حاول مراراً، حسب المؤرخين والوطنيين الروس، سلب القرم من أرض الوطن.
من ناحية أخرى وفي الوقت نفسه تقريباً كان الإعلام الغربي يثير عاصفة انتقادات بهدف التأثير في توجهات الناخب الروسي، على أمل ساذج في أن يصوّت أغلبية الناخبين أو نسبة كبيرة منهم ضد الرئيس بوتين أو يمتنعوا عن المشاركة.
كانت الانتخابات الروسية كاشفة في جوانب أخرى أراها شديدة الأهمية وكثيراً ما يرفض ليبراليون التوقف عندها والبناء عليها. أقصد تحديداً واقع وجود قطاع كبير في سكان روسيا يتذكر بوضوح شديد وألم قاس ومرارة عميقة أيام الفوضى التي عاش فيها الروس في أعقاب سقوط النظام السوفييتي. رئيس عربيد على قمة السلطة محاط بخبراء غربيين في الخصخصة المالية والاقتصادية والتغيير السياسي. شوارع مخضبة بدماء عناصر في عصابات جريمة منظمة تتمدد كالأخطبوط تستنزف ثروات البلاد. لا هيبة للسلطة السياسية ورموزها كالشرطة وأجهزة الاستخبارات والكرملين. الجيش تدهورت حالته وروسيا تنحدر مكانتها انحداراً رهيباً في نظر العالم الخارجي، حتى صار الناس في عديد دول أوروبا لا يعرفون عن روسيا إلا غسل الأموال ودعارة النساء وعمليات الاغتيال.
بقي الحال على هذا الوضع لسنوات حتى جاء بوتين بعقد اجتماعي عقده مع الشعب عنوانه استعادة الأمن ومكانة روسيا في المجتمع الدولي مقابل تفويض لبوتين بالسلطة المطلقة. لم يكن بوتين بهذا العقد الاجتماعي يبتكر ممارسة جديدة في التاريخ السياسي لروسيا، هذا العقد موجود في روسيا يلخص شريعة الحكم منذ عصر الرومانوف مروراً بلينين فستالين، ولم يعرف الروس على امتداد تاريخهم عقداً آخر.
روسيا عادت في ظل حكم فلاديمير بوتين دولة كبرى لها تأثير. لا يجوز بعد اليوم الاستهانة بهذه الدولة ولا بكفاءة وقدرات حاكمها الأوحد، بخاصة بعد أن أصبحت نموذجاً يحتذى.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي مصري سابق وكاتب متخصص بقضايا العلاقات الدولية. اشترك في تأسيس مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بمؤسسة الأهرام. وأنشأ في القاهرة المركز العربي لبحوث التنمية والمستقبل. عضو في مجلس تحرير جريدة الشروق المصرية ومشرف على صفحة الرأي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"