الصين في الشرق الأوسط قوة عظمى

02:51 صباحا
قراءة 4 دقائق
جميل مطر

حشرونا في أربع بنايات في أرض فضاء على طريق المطار خارج مدينة بكين. لم يتبقَّ من دبلوماسيين يسكنون داخل المدينة سوى فلول البريطانيين وعدد بسيط من دبلوماسيين وقعوا في حب الصين، التي رسموها في خيالهم فأرادوا العيش وسط أهلها، وسمحت لهم الحكومة مضطرة وعلى مضض. أما البريطانيون، فهؤلاء أقاموا داخل مربع من المباني وسط ما كان يعرف قبل الثورة بحي الأجانب، ويحتوي على السفارة ومساكن القائم بالأعمال، وبقية موظفي السفارة البريطانية. لفتت نظري خلال زيارة خاصة لمنزل أحد أعضاء السفارة داخل «الكومباوند الإنجليزي» آثار لوحة صغيرة على جدار في مدخل «الكومباوند» تؤكد الأمر القاضي بمنع الصينيين من الدخول إلا لحاملي أذون خاصة. المفارقة المثيرة في هذه اللوحة البالية أنها من صنع وأمر الإنجليز منذ عهد ما قبل الاستقلال، عندما كان الإنجليز وأجانب آخرون أسياداً يحق لهم منع الصينيين والكلاب من دخول أحياء خصصوها لسكناهم. أتصور أنه كان للحكومة الشيوعية التي حلت محل حكومة الكومنتانج في بكين مصلحة مزدوجة في بقاء هذه اللوحة في مكانها، ولم تطلب إزالتها. أرادت أن تظل شهادة تاريخية على عنصرية الغرب الأبيض واستخفافه بشعب الصين. كان عددنا في بكين كبعثات دبلوماسية أجنبية لا يزيد على الثلاثين، كنا ثماني وعشرين بعثة إذا لم تعاندني الذاكرة، أغلبها يمثل الدول الاشتراكية في أوروبا ودولاً في آسيا كالهند طبعاً وسيلان وبورما وكمبوديا وإندونيسيا ودولة من إسكندنافيا. لم يكن في بكين تمثيل دبلوماسي لدولة من الشرق الأوسط وإفريقيا إلا السفارة المصرية. وحدنا تحملنا العبء في بكين وأظن أن مصر حصلت على ما تستحق من ثناء الصين ودعمها. كانت لحماسة مصر تجاه الصين ما يبررها منذ أن قرر الغرب ضرب مصر بالحرب في سيناء والقناة، وبالتواطؤ مع قوى شرق أوسطية عندما أطلق أيزنهاور مبادرته بشأن وقف التمدد الشيوعي المزعوم والسعي لتحريك قوات تركية ضد سوريا. كانت التعليمات الصادرة للسفارات المصرية في الخارج تقضي بحث الدول الإفريقية المستقلة والقوى والحركات الساعية للاستقلال والدول الأعضاء في جامعة الدول العربية للاعتراف بجمهورية الصين الشعبية وإقامة علاقات معها.
خطرت الفكرة وراء السطور السابقة، بينما كنت أقرأ تقريراً عن دور للصين في الشرق الأوسط بدأ متريثاً قبل سنوات قليلة، وها هو ينطلق متعاظماً في كل اتجاه ونحو كل عاصمة في الشرق الأوسط.
كيف حققوا هذا الإنجاز؟ السؤال الذي لم تتوقف عن توجيهه القاهرة لنا، وأقصد لسفارتها، عقب كل إنجاز يتحقق في الصين. كنا نعرف أن وراء السؤال نية التقليد. إذا كان الصينيون فعلوها فماذا يمنعنا؟ كان بيننا وعلى رأسنا أحياناً من تملكه الظن بأننا في مصر قادرون بالانضباط والتنظيم على تحقيق إنجاز بعد آخر، مثلما فعل الصينيون. لم نفهم وقتها أن وراء مفهوم التنظيم في الصين ما هو أكثر وأعمق من مفهوم الانضباط كما نفسره ونطبقه. حاولنا بصعوبة تحسين الفهم. لم يكن مقبولاً الحديث صراحة ولا في مذكراتنا الدبلوماسية السرية عن حقيقة أن في الصين حزباً، وأنه لا مؤسسة أخرى في الدولة تحل محله وتقوم بوظائفه وتعتنق ما يعتنقه.
لا ننسى ويجب ألا يغفل الساعون إلى تقليد تجارب الصين عن حقيقة أن المجتمع الصيني الذي انطلق بكل قوته يحقق نهضة التحديث كان الثمرة التي أفرزتها الثورة الثقافية. بمعنى آخر، هناك شك كبير في أن مجتمع ما قبل الثورة الثقافية بخصائصه المعروفة المناهضة للتحديث، وقد عشت جانباً من السنوات الأخيرة لهذه المرحلة، كان يمكن أن يحقق نهضة تحديثية في التنمية أو في الانفتاح على العالم الخارجي في وقت قصير كهذا.
المسؤولون الصينيون لن يناقشوا هذه الحقيقة، أو الأسطورة، بكل ما يلزم من صراحة ضرورية، ولكنهم في النفس ذاته يعلنون رفضهم المطلق للمبدأ الغربي القائل: إن حالات السلام والرخاء لا تقوم إلا على الديمقراطية. في رأيهم يقوم السلام والرخاء على التنمية الحقة والشاملة والمتكاملة. هذا الرأي هو ما تطرحه الصين على الدول الساعية لتقليد تجاربها شرطاً مسبقاً للتقليد الناجح، ولكنه لن يكون شرطاً لتعامل وتعاون وصداقة بين الصين ومختلف الدول. لا تخجل الصين ولا تتردد وتكاد تكون واثقة من أن المستقبل مدين لمعتنقي هذا الرأي وليس لمعتنقي الرأي المنادي بأولوية الديمقراطية. هم، وأقصد الصينيين، مطمئنون إلى مستقبل وجودهم ونفوذهم في الشرق الأوسط. لم يطرحوا بعد أهدافاً جيواستراتيجية في الإقليم. حالياً لا يخفون أن مصالحهم تدور حول موضوعين أساسيين، هما الطاقة ومبادرة الطريق والحزام. يرفضون، حتى الآن، التورط في مواقف من النزاعات الإقليمية والدولية التي يعج بها الشرق الأوسط. لا قوات عسكرية للصين في الإقليم. الصين لن تنشئ قواعد عسكرية غير ضرورية، إلا إذا دعت الحاجة إلى حماية طرق وقواعد تجارة مبادرة الطريق والحزام.
الجديد الأهم في الموضوع كخلاصة وبداية هو أن الصين، وقد أصبحت قوة عظمى في الشرق الأوسط، لن تقبل لنفسها دوراً أقل من عضو كامل العضوية في نظام شرق أوسطي متعدد الأقطاب.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي مصري سابق وكاتب متخصص بقضايا العلاقات الدولية. اشترك في تأسيس مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بمؤسسة الأهرام. وأنشأ في القاهرة المركز العربي لبحوث التنمية والمستقبل. عضو في مجلس تحرير جريدة الشروق المصرية ومشرف على صفحة الرأي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"