الحرب الباردة بين الصين وأمريكا

02:53 صباحا
قراءة 4 دقائق
د.غسان العزي

بعد أن كانت الصين في نظر الأمريكيين تعد شريكاً ثم «شريكاً منافساً» باتت منافساً استراتيجياً بل باتت تعد خطراً وجودياً

لم تبدأ «الحرب الباردة»، كما يسميها المراقبون بين الولايات المتحدة والصين مع أزمة فيروس «كورونا» المستجد؛ فالرئيس ترامب وعد خلال حملته الانتخابية بمواجهة «الاعتداءات الصينية» على بلاده في مجالات الملكية الفكرية، و«سرقة التكنولوجيا»، والتجارة وغيرها. وفي خطاب تسلمه السلطة في يناير/كانون الثاني 2017، اعتبر ترامب أن بلاده وقعت ضحية العولمة، ووعد بإعادة النظر فيها، وبوضع الصين أمام مسؤولياتها. وبعدها بقليل ذهب إلى دافوس؛ ليوجه أعنف الانتقادات للعولمة قبل أن يباشر «بحرب تجارية» مع الصين؛ عبر زيادة الرسوم الجمركية على بعض بضائعها. المفارقة أن الرئيس الصيني شي جين بينج امتدح العولمة في مؤتمر دافوس نفسه، فلقي تأييداً وترحيباً من الحاضرين.

قامت استراتيجية ترامب في مواجهة الصين على الانتقادات العلنية، والتهديدات، ورفع الرسوم، واتهامها بعدم احترام قواعد التنافس الحر، وفي الوقت نفسه التفاوض معها، والبحث عن تسويات. وقد ردت الصين بالمثل مع إبقاء اليد ممدودة، ورفض الدخول في حرب تجارية معلنة، قال الرئيس الصيني: إنها ليست لمصلحة أحد. وفي السنوات الثلاث المنصرمة من حكم ترامب بقيت علاقاته بنظيره الصيني ضمن حدود التسويات المعقودة على الرغم من تصريحاته النارية المتكررة، وبقيت محاولاته لصد الصين ووقف انتقال التكنولوجيا الغربية إليها مجزأة، وباءت حربه التجارية بالفشل، كما نزاعه مع شركة «هواوي» في مجال الجيل الخامس من الإنترنت؛ وذلك بسبب الرد الصيني، وعدم تعاون الحلفاء الأوروبيين معه.

في هذه العلاقات المضطربة تدخل عامل جديد غير متوقع هو فيروس «كورونا» المستجد الذي كشف عن هشاشة المنظومة الصحية في الولايات والمتحدة - وغير بلد أوروبي- وارتباطها الخطر بصناعات الأدوية والأجهزة الطبية الصينية (على سبيل المثال لا الحصر فإن 98% من الأدوية الأمريكية المضادة للالتهابات مصنوعة في الصين)، ما شكل إهانة حقيقية للقوة الأعظم في العالم التي راحت «تتسول» الكمامات والأجهزة الطبية في المطارات الصينية. ويقول أحد مسؤولي البنتاجون إن ذلك وضع بلاده في «حالة صدمة وذهول».

مصطلح «الحرب الباردة» الذي كان يستخدمه المراقبون بحذر شديد لدى تحليلهم للعلاقة الصينية-الأمريكية بات يعبّر عن حقيقة واقعة خلال أزمة كورونا. فالمعروف أن هذا الفيروس انطلق من مدينة ووهان لينتشر في أصقاع العالم. ويتهم ترامب الصين بأنها أخفت معلومات، وكذبت وتأخرت في نشر المعطيات المتعلقة بالوباء، الأمر الذي تسبب بانتشاره، ولو أنها قامت بما يتوجب عليها؛ لأمكن حصر الوباء والتغلب عليه قبل أن يتحول الى جائحة. كما يتهم منظمة الصحة العالمية بالخضوع للنفوذ الصيني؛ لذلك أوقف الدعم الأمريكي المالي لها. هذا إذا أردنا عدم الدخول في الاتهامات المتبادلة بصناعة الفيروس ونشره بشكل متعمد؛ لأسباب تجارية وسياسية واستراتيجية وغيرها.

ويبدو أن الصين نجحت في وقف الجائحة، فعادت الحياة فيها الى طبيعتها، وعادت مصانعها الى العمل؛ بل إنها باتت في موقع من يقدم المساعدات الطبية إلى الآخرين في وقت تتخبط فيه إدارة ترامب أمام الوباء عشية الانتخابات الرئاسية.

من هنا تشديد ترامب على المسؤولية الصينية وذهابه إلى حدود بعيدة في اتهاماته، إلى درجة أنه ألمح إلى إمكانية مطالبة بكين بدفع مئات مليارات الدولارات كتعويض عن الأضرار الذي تسبب بها «الفيروس الصيني» كما يصفه، ودعا إلى تحقيق دولي في الموضوع. وزاد الطين بلة قرار الصين الأخير بالحد من الحكم الذاتي في هونج كونج، الأمر الذي اعتبرته واشنطن خرقاً لاتفاق العام 1997 الذي استعادت من خلاله الصين إقليم هونج كونج من بريطانيا واعدة بتطبيق مبدأ «نظامي حكم في بلد واحد» الذي ابتدعه مؤسس «المعجزة الصينية» دينغ شياو بينج.

إنها الأزمة الأخطر في العلاقات الأمريكية- الصينية منذ أحداث تيانامين في الصين عام 1989.وهذه الأزمة ليست سوى بداية لحرب باردة ممتدة بين البلدين؛ بل إن هناك من المحللين من يعتقد بقدر من المبالغة، بأنها قد تتحول إلى حرب ساخنة حقيقية مسرحها بحر الصين الجنوبي في بداية الخريف المقبل قبل الانتخابات الرئاسية الأمريكية.

هل سيسجل المؤرخون عام 2020 على أنه بدء صعود الصين لتحل محل الولايات المتحدة في قمرة قيادة النظام العالمي؟ من الصعب الإجابة عن هذا التساؤل في الوقت الراهن، إلا أنه من المؤكد أن من نتائج كورونا أنها كشفت عن غرب مفكك؛ بسبب مواقف ترامب من حلف الأطلسي وحلفائه الأوروبيين، ومشاكل هؤلاء على خلفية البريكست ومديونيتهم الهائلة واقتصادهم الضعيف وتخبطهم في مواجهة الوباء، في مقابل الصين التي تملك السيولة والاقتصاد القوي والاستثمارات الهائلة والقدرة على شراء كل شيء من السوق العالمي.

وبعد أن كانت الصين في نظر الأمريكيين تعد شريكاً ثم «شريكاً منافساً» باتت منافساً استراتيجياً؛ بل باتت تعد خطراً وجودياً؛ اذ إن استطلاعاً للرأي أجراه معهد بيو الأميركي مؤخراً كشف عن قناعة 91% من الأمريكيين بأن الصين باتت تشكل خطراً استراتيجياً على أمريكا، على الرغم من أن هؤلاء أنفسهم لا يحبذون محاولات ترامب التعويض عن عجزه عن إدارة أزمة كورونا باستخدامه للخطر الصيني. والحزب الديمقراطي سيكون مضطراً للسير في ركاب ترامب في المسألة الصينية التي من الأرجح أن تتمحور حولها المعركة الانتخابية الرئاسية المقبلة.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه دولة في العلوم السياسية وشغل استاذاً للعلاقات الدولية والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية ومشرفاً على اطروحات الدكتوراه ايضاً .. أستاذ زائر في جامعات عربية وفرنسية.. صاحب مؤلفات ودراسات في الشؤون الدولية باللغتين العربية والفرنسية.

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"