بيروت.. الجراح المفتوحة

03:33 صباحا
قراءة 3 دقائق
عبد الإله بلقزيز

لم يكن لبنان ليحتاج إلى التضامن الجمْعي بين أبنائه كافة، في أي لحظة من اللحظات الكالحة التي مرَ بها منذ 13 أبريل/نيسان عام 1975 حتى الآن، مثل حاجته الماسة إلى ذلك، اليوم، بعد الكارثة التي حلت به في الرابع من أغسطس/آب الماضي.
في محنه وابتلاءاته السابقة، كان منقسماً عليها؛ لأنه كان ضحية صراع أبنائه على خيارات في السياسة ومصالح اصطدمت ببعضها بعضاً، دموياً أو سياسياً. حتى محنه الوطنية التي صنعها العدوان الصهيوني عليه، والاحتلالات المتكررة لأرضه، منذ عام 1978، لم تُنْجِب وحدةَ موقف وطني وإجماع عام ضد العدو؛ لأن الانقسام والشرخ الداخليين كانا عميقين، ولأن القضية الوطنية تداخلت مع قضية الصراع الاجتماعي الداخلي فاختلط الجامع بالمانع. أما اليوم، مع هذه المحنة الجديدة فاختلف الأمر؛ لأنها لم تُصِب فريقاً دون آخر، ولا ميّزت كارثتُها بين اثنين، تماماً مثلما تفعل النوائب والجائحات مثل الزلازل والأوبئة: مثل وباء كورونا.
لا يُفترض في نائبة فاجئة وفاجعة كالتي ألَمت بلبنان من انفجار المرفأ، وإصابة نصف العاصمة في مقتل، أن يُكتَفَى بمواجهتها عن طريق تعبئة عامة لمؤسسات الدولة ومواردها، على نحو ما هو مألوف في مثل هذه الحالات الطارئة، وإنما يُفترض أكثر من ذلك أن تقع تعبئة شعبية وطنية عامة للإمكانيات والموارد كافة تكون رافداً رئيسياً لجهد الدولة الرسمي؛ هذا الذي وحده لا يكفي لاستيعاب ذيول الكارثة وتداعياتها المَهُولة.
والتعبئة التي من هذا الجنس لا تقوم بها الدولة وأجهزتها؛ بل القوى الشعبية من أحزاب ونقابات ومنظمات مدنية، وروابط اجتماعية وأجهزة صحافة وإعلام، وهيئات ثقافية.. وما أغنانا عن القول إن لبنان من أكثر البلاد العربية التي تزخر بهذا الرصيد الهائل من القوى الشعبية الحية التي يسَعُها أن تنهض بأكثر الأدوار فاعلية في مضمار التعبئة العامة الوطنية لجبْه مثل هذه «البائقة» الكارثية والتخفيف من وطأة فواجعها.
على أن النهوض بدور تنظيم التعبئة هذه، رهن بوجود شعورٍ بالتضامن الوطني يَقر في نفوس الذين يُفترض أن يكونوا عربة القيادة التي تجُر قاطرة التعبئة الوطنية، وهم الأحزاب والقوى المدنية. وهذه للأسف الشديد لم تُبدِ شيئاً من قيم التضامن الجمعي تصنع به تعبئة؛ بل هي لم تفتأ منذ بدأ غبار الكارثة ينقشع عن هول المأساة تتوسل الانفجار ومآسيه تَكِئَةً تستخدمها للتصويب على خصومها، مستأنفة تقليداً كان يقضي دائماً، باستغلال كل مأساة تضرب لبنان واستثمارها في سوق المضاربات السياسية! ولقد شهدنا طويلاً على فصول مختلفة من هذه العادة السياسية السيئة في كل مرة يعْرِض فيها للبلد عارض مأساوي، وآخر تلك الفصول مأساة جائحة وباء كورونا التي استُغلت حتى آخر قطرة مورد! وهل ننسى أن المواجهات اللبنانية مع الاعتداءات الصهيونية على البلد لم تسلم، هي الأخرى، من الاستغلال السياسي الداخلي؟
ليس معلوماً حتى الآن، كيف حصل ما حصل في مرفأ بيروت، ومن المسؤول عن تخزين المواد المتفجرة، ومن فجرها، وهل الفاعل خارجي أم كان ذلك بفعل الإهمال وانعدام المسؤولية؟ فما زال التحقيق في هذا في بدايته. ومع ذلك، ينهمر سيل الاتهامات من كل حدب وصوب على هذه الجهة وتلك، من غير بينات وقرائن، ويدخل بعض الإعلام «على الخط» لمزيد من التوتير والتصعيد، فيما ينسى الجميع أن المواد المتفجرة المخزنة في الميناء تعود إلى سنواتٍ خلت، وأن المحاسبة بالتالي ينبغي أن تتناول طبقة سياسية برمتها: موالاة ومعارضة وليس فريقاً بعينه، وأن للمحاسبة أصولاً مؤسسية بحيث لا يجوز لأي كان أن يختصرها فيه فينصب نفسه مدعياً عاماً وشاهداً وقاضياً، فيما البلاد لم تخرُج من الصدمة بعد، وما زال شعبها المغلوب على أمره، يلملم جراحاته.
أما أردأ ما في هذا الأداء السياسي تجاه «نازلة» الانفجار فهو مسارعة كثيرين إلى المطالبة بتحقيق دولي في ما جرى! هل يُدرك المطالبون بلجنة تحقيق دولية أنهم، بمطلبهم هذا، لا يطعنون في سلطة حاكمة فحسب؛ بل يطعنون في شرعية دولتهم الوطنية ويشيعون استقلالهم الوطني إلى دار البقاء.
يقيناً أن الأزمات والابتلاءات الكبرى تحتاج إلى عقل كبير ورجالات كبار.. وإلى ضمير وطني لا فئوي، وهذا بالقطع ما هو لبنان في مسيس الحاجة إليه.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"