«ظل الريح».. الكتب أرواح مسحورة

03:28 صباحا
قراءة 4 دقائق
سلمان عز الدين

ربما لا يزال الحكاؤون هم الأكثر رواجاً بين الروائيين. حكاية شائقة ومتقنة هي طُعم أثبتت التجربة نجاعته في جذب الكثير من القراء، أما الرواية التي لا «تحكي» فهي، في الأغلب، تغامر بحبس نفسها في دائرة النخبوية.
سُئل مترجم شهير عن الإسبانية: «لماذا تواظب على ترجمة إيزابيل الليندي، مع أنك تضعها في الصف الثاني وربما الثالث بين كتّاب أمريكا اللاتينية؟». أجاب: «ثمة طلب كبير على كتبها.. يبدو أن قراء العربية لم يملّوا بعد من حكاياتها التي لا تنتهي».
بالطبع لا تشكل الحكاية علامة حصرية للجودة، ومن النافل تعداد الروايات الخالدة التي لم تستند إلى حكايات، أو الروائيين العظام الذين لم يُعرفوا كحكائيين، ولكن الراجح أن الحكاية لا تزال قطعة السكر التي يجري وراءها معظم قراء الرواية.

ها هو حكاء آخر يطل على قراء العربية، فالإسباني كارلوس زافون يبدو في روايته «ظل الريح» متقناً لصنعة «الحكي»، متمكناً من أدواتها وتقنياتها وحيلها. من «المعلومة المخبأة» إلى «الحكاية داخل حكاية» إلى «الأواني المستطرقة».. حكاية، بل حكايات، مشوقة بأحداث راكضة تحبس الأنفاس وتستشيط فضول أكثر القراء سأماً.

يعتمد زافون خلطة مجربة ترضي الذوائق المتنوعة، فالحبكة البوليسية لعشاق التشويق، والحوار الرفيع المحقون بجرعة فكرية لهواة نسخ الجمل المضيئة في مفكراتهم، وكذلك الخلفية السياسية التاريخية، إضافة إلى عنصر قلما يخفق: كتاب غامض تتمحور حوله الأحداث.
تبدأ الرواية من مشهد في صيف العام 1945، عندما يقود الوراق سيمبري ولده دانيال، ابن العشرة أعوام، إلى واحد من كنوز برشلونة الخفية: مقبرة الكتب المنسية. هنا حيث تخبأ الكتب سيئة الحظ، المظلومة بالإهمال والآيلة للنسيان، وعلى كل من يطلع على سر المقبرة أن يتبنى كتاباً ويتعهده بالرعاية حتى آخر يوم في حياته. يقع اختيار دانيال على رواية مجهولة «ظل الريح» لكاتب مغمور يدعى خوليان كاراكس. وسرعان ما يدرك الطفل أن لغزاً كبيراً يقف وراء الرواية وكاتبها، فينطلق في رحلة كشف محفوفة بالمخاطر، سوف تستهلك طفولته وجزءاً من شبابه.
ومن هنا تسير الرواية في مسارين متوازيين: حكاية كاراكس التي تتكشف، صفحة تلو صفحة، عن مفاجآت وأسرار مذهلة، وحكاية دانيال وهو يتعقب خطى الروائي المغمور ويهرب من لايين كوبرت، الشبح الغامض الذي آل على نفسه إحراق جميع كتب كاراكس.

الحكايتان المتوازيتان تلتقيان في مرحلة ما، وتتشابكان بحيث يصعب الفصل بينهما أحياناً، بل ينتاب القارئ إحساس أن دانيال ورفاقه ما هم إلا شخصيات في الرواية التي كان كاركاس قد كتبها، وهكذا ف «ظل الريح» أكثر من كتاب يعثر عليه الطفل مصادفة، إنه أشبه بلوح القدر الخاص به، وفي الوقت الذي أراد فيه دانيال تغيير مصير الكتاب فإن الكتاب هو الذي غير مصيره في النهاية. إذاً نحن أمام انقلاب في علاقتنا المألوفة بالكتب، إذ لم تعد الكلمات على الورق مجرد محاكاة للواقع، إنها هنا تغير الواقع وتبدل مصاير كائناته.

يصور إمرسون المكتبة على أنها غرفة للأرواح المسحورة الهاجعة، وعندما يأتي قارئ ليفتح دفتي كتاب فإن هذه الأرواح تستيقظ من سباتها وتقوم لتفعل فعلها في العالم. وهذا ما يحدث في رواية كارلوس زافون، إذ كانت شخوص رواية خوليان كاراكس (الشاب البطل، وحبيبته، ولايين كوبرت الشبح..) أرواحاً نائمة، وعندما قرأ دانيال الرواية، فقد أيقظ أرواحها وأطلقها في شوارع برشلونة..

وتكرر الرواية، أيضاً، فكرة قالها مالارميه: «تحدث الأشياء في العالم كي تنتهي في كتاب»، فكأنما قصص الحب المخفقة، وصعود عائلات وهبوط أخرى، والثروات المهدورة، والمصائر المأساوية لرجال ونساء.. كلها جاءت فقط لتصوغ رواية كاراكس. وبالطبع نستطيع المتابعة بالقول إن كل ما حدث لكاراكس وحبيبته وأهلهما، وكذلك لدانيال من بعدهم.. قد حدث لينتهي في كتاب زافون نفسه. هكذا تنمحي الفوارق بين الرواية والحياة، بين الخيال والواقع المعاش، ويتبادل الاثنان التأثير والتلاعب وصياغة الأقدار.
تعج الرواية بالكثير من الشخصيات، ولكل منها هاجس وكابوس وحلم وسر، وما يجمع بينها أنها جميعاً نتاج برشلونة، المدينة التي تقلبت ما بين صعود وهبوط، قبل أن تسلمها الحرب الأهلية إلى مزاج سوداوي قوامه لا مبالاة مخدرة ورعب صامت وغيظ مكتوم. وثمة قاسم مشترك آخر، فكما في كل الحكايات التقليدية، تبدو الشخصيات هنا مجرد دمى بين يدي القدر، وكل ما تفعله وما تختاره وما تتبناه يشكل خطوات صغيرة على طريق مرسوم سلفاً. اللقاءات التي تصنعها الصدفة، وأكثر القرارات ارتجالية، والمجازفات المدفوعة بالنزوة، وكل ما يبدو بلا معنى.. هي قطع في لعبة «البازل»، ترتبها يد خفية لتصنع منها لوحة كبيرة ذات معنى.

الحرب حاضرة بقوة في أجواء الرواية. يقول دانيال: «أنا نشأت على اقتناع بأن الكآبة التي رسختها الحرب، إضافة إلى البؤس والآلام المكتومة، من الأشياء الطبيعية تماماً كتعاقب الفصول. بل وكنت مقتنعاً بأن التعاسة التي تقطر من الجدران تعبر عن روح المدينة الجريحة. من إحدى مكائد الطفولة أنك لا تفهم بالضرورة ما تعانيه، وحين تبلغ سن الرشد يفوت الأوان على مداواة جراحك». ولكن النتائج السياسية ليست هي ما يعني شخوص الرواية بقدر ما يعنيهم ما كشفته الحرب، أو ما أعادت اكتشافه، ذلك أن الإنسان المتحضر لا يزال ينطوي على وحش ضار، لا يتورع عن الفتك واقتراف أكثر الجرائم بشاعة، وكذلك فإن للبربرية دورات ثابتة، فهي ما تكاد تختفي من مكان حتى تعود في آخر.. فهل نعول على الكتب في إنقاذ البشرية؟ أم أن الكتب وجدت كعزاء لنا وحسب؟.

كارلوس زافون روائي وكاتب سيناريو إسباني من مواليد برشلونة (العام 1964)،يقيم في الولايات المتحدة منذ العام 1994. له أربع روايات في أدب الناشئين: «أمير الضباب»، «قصر منتصف الليل»، «أضواء سبتمبر»، و«مارينا». أما «ظلال ريح» فهي روايته الأولى غير الموجهة للأطفال، وقد لقيت حال نشرها حفاوة نقدية كبيرة، وسرعان ما ترجمت إلى ثلاثين لغة.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"