الحوار الديني ضرورة تفرضها مصلحة البشرية

دين التسامح
04:20 صباحا
قراءة 6 دقائق

بالرغم من أن الإسلام جاء ديناً خاتما للرسالات السماوية، وشاملاً لكل ما احتوت عليه من فضائل، ومعالجاً لكل ما شابها من نقصان.. وبالرغم من أن أرسل الله سبحانه وتعالى رسول الإنسانية محمداً صلوات الله وسلامه عليه رحمة للعالمين وليس للمسلمين وحدهم، وقال في قرآنه الخالد مخاطباً إياه: «وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين».
ويعترف الإسلام بالأديان السماوية السابقة، ويفرض على المسلم الإيمان بها، ويعتبر ذلك الإيمان جزءاً من عقيدة المسلم.
لا يقف الإسلام عند هذا الاعتراف، بل يؤكد ضرورة الحوار والتفاهم في إطار من الاحترام المتبادل، ويرفض كل صور التعصب الديني.. والسؤال الذي يفرض نفسه دائماً: ما الأسس التي على أساسها يتم الحوار الديني وفقاً لمنظور الإسلام ورؤيته؟
يؤكد د. أحمد الطيب شيخ الأزهر رئيس مجلس حكماء المسلمين أن الحوار بين أتباع الأديان السماوية في الأمور الفكرية والثقافية، وفيما يخص الأمور الحياتية، من الواجبات التي لا يجوز التخلي عنها من جانب أي طرف.. لكن شيخ الأزهر يتحفظ على مصطلح «الحوار بين الأديان»، انطلاقاً من أن الأديان ليست محلاً للحوار، ولا ينبغي طرح أسسها وثوابتها العقدية على طاولة الحوار، ذلك أن كل دين سماوي له ثوابته التي ينبغي أن يحترمها الجميع، ومن هنا يكون المقصود هو: «الحوار بين أتباع الأديان السماوية للبحث عن القواسم المشتركة والاتفاق على مجالات التعاون لمنع النزاع، وتحقيق حالة من التعايش السلمي بين أهل الأديان جميعاً» ومن جانبنا- نحن المسلمين- فإن ما يربطنا بأهل الأديان السماوية كثير ومتنوع.

دين عقل وحوار

ويؤكد شيخ الأزهر، أن الموقف الإسلامي من «الحوار بين أتباع الأديان السماوية» يوضحه لنا القرآن الكريم من خلال نصوص واضحة ودلالاتها حاسمة.. ويقول: الدين الإسلامي في المقام الأول هو (دين العقل)، ويترتب على ذلك منطقيا أنه لا بد أن يكون دين حوار؛ إذ لا سبيل إلى مخاطبة العقل إلا بما هو قابل للحوار والنظر والدليل، وحسبك أن تعلم أن مادة (عقل وعلم وفكر ونظر وفقه) بمشتقاتها قد وردت في القرآن الكريم أكثر من 120 مرة، وأن القرآن لفت الأنظار في تكرار عجيب بألفاظ شتى مثل: (يعقلون، يتدبرون، يفكرون، ينظرون، يتذكرون، يسمعون، يفقهون، يعلمون).
ويضيف: وإذا كان الإسلام قد عوّل في الخطاب الإلهي الذي يبلغه الأنبياء إلى الناس، على العقل، والعقل وحده، فإنه ألغى أي وسائط أخرى من كهنوت أو ممثل لحق إلهي يتوسط بين الله والناس، وجدير بالذكر أن اعتماد الإسلام على العقل أولاً وعلى الحوار تبعاً، لم يكن على المستوى النظري أو على مستوى النصوص القرآنية فقط، بل كان على مستوى التطبيق العملي الذي جسدته سيرة نبينا الكريم- صلى الله عليه وسلم- مع المسلمين وغير المسلمين على السواء؛ حيث تتجسد صورة عملية لحوار الرسول مع أتباع الأديان السماوية والتي برزت في المعاهدات السياسية التي عقدها صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة مع اليهود، وقد صيغت في شكل وثيقة سياسية، تعكس صورة فريدة من صور تسامح الإسلام واعترافه بالأديان الأخرى. وهذه الوثيقة تنص على موادعة اليهود، لدرجة أنها اعتبرتهم أمة مع المسلمين جنباً إلى جنب.

احترام كامل للمسيحية

وكما تعامل القرآن الكريم بموضوعية وعدالة وإنصاف مع اليهودية كدين سماوي.. كان موقفه المتسامح من المسيحية، فقد تضمن كلاماً طيباً عن النصارى، وفي القرآن الكريم سورة كاملة اسمها سورة الروم، تحمل الآيات الأولى منها بشارة لنصارى الروم، وتعدهم بالنصر على أعدائهم في بضع سنين، وكان المسلمون يحبون أن ينتصر الروم لأنهم نصارى، وكانت عاطفة المشركين مع الفرس الوثنيين في ذلك الوقت، وجاءت فرحة المسلمين غامرة وكبيرة بانتصار الروم، ولما اشتد أذى أهل مكة على المسلمين وفكروا في الهجرة خارج مكة قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: «إن بأرض الحبشة ملكاً لا يُظلم أحد عنده فالحقوا ببلاده حتى يجعل الله لكم فرجاً ومخرجاً مما أنتم فيه».
وهذا الملك الذي التجأ إليه المسلمون وأمنوا في جواره على دينهم وحياتهم هو ملك مسيحي يحكم شعباً مسيحياً ودولة مسيحية.
ملمح آخر يتضح فيه ترحيب الإسلام بالحوار والتعاون مع أهل الكتاب- اليهود والنصارى- يتمثل هذه المرة في اكتساب المسلم حقاً شرعياً في الاقتران بزوجة يهودية أو مسيحية، تبقى على دينها وتكون شريكة حياته وأم أولاده.
وهكذا يتضح أن الإسلام يعترف بأهل الكتاب ويقبلهم، ويقيم معهم علاقات ترقى إلى تكوين أسرة مسلمة تعتمد على زوجة يهودية أو مسيحية، ولا يجد الإسلام غضاضة في ذلك، ومن أبرز صور تسامح الإسلام أنه لم يتوجس خيفة من اليهود أو من غيرهم، ولم يحذر المسلم من الاختلاط بهم والركون إليهم، خاصة بعد ما أظهروا عداءهم وبغضهم للإسلام والمسلمين.. لكن وجدنا القرآن الكريم الذي نبهنا إلى هذا العداء هو نفسه القرآن الذي لا يصادر على أتباعه قبول أهل الكتاب إلى درجة المصاهرة.. وهذا المستوى من العدل والإنصاف والاعتراف بالآخر لا يُعرف إلا لهذا الدين القيم، ولن تتسع له شريعة أخرى كشريعة الإسلام.

فرص التفاهم

ومن هنا فإن فرص التلاقي والتفاهم والتعاون بين أتباع الأديان السماوية السابقة- كما يؤكد د. محمود حمدي زقزوق عضو هيئة كبار العلماء ورئيس مركز حوار الأديان بالأزهر- جيدة للغاية، فالديانات السماوية الثلاث خرجت من مشكاة واحدة، ولذلك فهي تتفق في الأصول والجوهر، وإن تباينت في التفصيلات والجزئيات.. ويقول: الأديان السماوية كلها تقوم على التوحيد، وتحض على الأخلاق الفاضلة، وتنهى عن ارتكاب الكبائر، وتتماثل الديانات الثلاث في أسس العبادة، فهي كلها تأمر بالصلاة والصوم والزكاة وإن اختلفت في مواعيد أدائها ومقدارها وكيفية هذا الأداء.. كما أنها تقترب من بعضها في شؤون العقيدة كالإيمان بالله الواحد وملائكته وكتبه ورسله ويوم البعث.
ويضيف: الإسلام الذي ندين به وندعو الآخرين إليه دين عقلاني يعتمد على الحوار والجدال مع الآخرين لنقل أحكامه وتعاليمه إليهم، والرد على كل ما يطرأ على عقولهم من تساؤلات أو شكوك أو ظنون أو أوهام.
ويوضح د. زقزوق أن المبادرة الأولى إلى الحوار الديني انطلقت في الأساس من الإسلام، والقرآن الكريم يقول في ذلك موجهاً الخطاب إلى النبي- صلى الله عليه وسلم- متضمناً المبادرة إلى الحوار الديني: «قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون».
فهذه الدعوة القرآنية دعوة صريحة إلى الحوار الديني بين طرفين: الجانب الإسلامي، وجانب أهل الكتاب من المسيحيين واليهود، ويهدف الحوار إلى تأكيد القيم المشتركة بين هذه الأديان، وعلى رأسها الإيمان بالله، ودعم الأخلاق الفاضلة، وتكريم الإنسان والاعتراف بحقوقه.. كما يستهدف الحوار التخفيف من حدة الخلاف والصراع بين أتباعها، والغرض النهائي من كل ذلك هو نبذ ثقافة الكراهية والتعصب، ذلك أن الكراهية والتعصب يؤديان إلى التطرف، وهو يؤدى بدوره إلى العنف والإرهاب.

الاعتراف بالآخر

ويمتاز موقف الإسلام في أي حوار مع الأديان الأخرى- كما يوضح د. زقزوق- بميزة كبرى لا تتوفر لغيره من الأديان، وهي إيمانه بكل الديانات السماوية، السابقة، وهذه الميزة تجعله متحرراً من العقد والحساسيات والنفور الذي قد يشعر به الآخرون في مثل هذه الأحوال.
ومن أجل أن يكون هناك حوار مثمر وتعاون وثيق بين الجماعات البشرية أياً كانت انتماءاتها، دعا القرآن الكريم إلى ضرورة تعرف كل جانب إلى الجانب الآخر وتفهم مواقفه على قاعدة من المساواة التامة، وهذا ما تعبر عنه الآية الكريمة: «يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا».
وهذه الآية تبرز المعنى الإنساني العام لطبيعة الإسلام، فنحن نتعرف إلى الآخر من خلال تعرفنا إلى أنفسنا، الأمر الذي يؤكد وحدة الإنسانية، وهي تلك الوحدة التي مصدرها الله، وقد أكد الإسلام هذه الوحدة تأكيداً لا يقبل التأويل حين اعتبر أن الإساءة إلى أي فرد من أفراد الإنسانية تعد إساءة إلى الإنسانية كلها، وفي المقابل يعد تقديم الخير إلى فرد واحد من أفراد الإنسانية بمثابة تقديم الخير إلى الإنسانية كلها، وهذا ما عبرت عنه الآية الكريمة: «من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً».
وقد أكد القرآن الكريم أيضاً العلاقة الوثيقة التي تربط بين المسلمين والمسيحيين في قوله تعالى: «ولتجدن أقربهم مودةً للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهباناً وأنهم لا يستكبرون».
وينتهي العالم والمفكر الأزهري الذي خاض كثيراً من الحوارات الدينية والفكرية مع غير المسلمين إلى أن الموقف الإسلامي من الحوار مع الآخر الديني (موقف حضاري)، فالإسلام لم يقر فقط مبدأ الحوار بل دعا إليه، كما وضع الشروط الكفيلة بإنجاح أي حوار على المستوى الديني أو الفكري، والذي هو أعقد أنواع الحوارات على الإطلاق، لأنه لا يمس أمور الحياة الدنيوية العادية التي يمكن التساهل فيها، وإنما يمس أمور العقيدة الدينية المترسخة في النفوس والمتغلغلة في الأعماق، فهي بطبيعتها أمور حساسة.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"