قصص تغوص في عمق اللحظات الإنسانية

عائشة الزعابي في مجموعتها "وللحياة نوافذ أخرى"
01:13 صباحا
قراءة 6 دقائق

تحمل مجموعة #187;وللحياة نوافذ أخرى#171; للقاصة الإماراتية عائشة سعيد الزعابي مؤشرات موهبة متميزة في كتابة القصة القصيرة . من تلك المؤشرات أنها حين تكتب عن المرأة ومشكلاتها لا تسعى قصداً وتعسفاً إلى تحميل الرجل كل المسؤولية عما يحدث من مشكلات بينه وبين المرأة، ولا إلى إظهار المرأة بمظهر الشخصية الضعيفة التي تتلقى الظلم والكبت مستكينة، وهي الصورة التي درجت أغلب الكتابات النسوية العربية على ترسيخها في ذهن القارئ - فخلال قصص المجموعة البالغة ستة عشر قصة تكرس الكاتبة جل اهتمامها للقضايا الاجتماعية المرتبطة بحياة الأزواج والعشاق، وتقف عند المشكلات الخاصة بتعامل كل طرف مع الآخر وتغوص في أعماق الشخصية لتقيم موقفها، وفي أحيان كثيرة لا تتردد في إدانة سلوك المرأة وأعمالها غير المنطقية .

في قصة #187;بهدوء#171; تستهين المرأة بزوجها وتستغل عواطفه نحوها للتباهي بالسيطرة عليه والتمادي في تجاهل وجوده، فتظل تخرج من البيت وتعود إليه على هواها، وحين تعييه الوسائل لردعها عن غيها يلجأ إلى ارتكاب أفظع جريمة انتقاماً منها، فيقتلها بدم بارد، وبهدوء أعصاب تام، وفي قصة #187;حتى آخر رمق#171; تدين الكاتبة انشغال المرأة الدائم بالتنافس مع صديقاتها ومعارفها من النساء الأخريات وسعيها إلى أن تظهر بمظهر يثير غيرتهن حتى ولو كان ذلك على حساب زوجها ومتطلّبات بيتها، فالبطلة تصر على أن يدبر لها زوجها رحلة إلى الخارج، لا لشيء إلا لتغيظ صديقتها التي تباهت أمامها بعقد الذهب الذي جلبه لها زوجها، وتحت إصرارها ومقاطعتها له، يرضخ المسكين ويتحمل دينا لا يطيق سداده لكي يلبي لها طلبها .

ولا تعني تلك الأمثلة أن الكاتبة تنحاز للرجل، وتدافع عنه، بل هي تدين بشدة تجبره وتجاهله لعواطف المرأة واستغلاله لها، كما تدين ضعفه عن تحمل مسؤولياته كزوج عليه حماية زوجته وصيانة كرامتها، ففي قصة #187;هروب#171; نصادف تلك الزوجة المستعبدة من طرف حماتها، التي تتجرع مرارة القهر في كل لحظة من لحظات حياتها، كل ذلك وزوجها ذليل لا يستطيع أن يفعل لها شيئاً، وفي قصة #187;عندما يرحل الحب#171; تدين الكاتبة صبوة الزوج الذي يصرح لزوجته بعد عشرة عمر طويلة، وبعد كل تضحياتها وفي سبيل تربية الأولاد وتنشئتهم تنشئة صحيحة، يصرح لها بأنه راغب في الزواج من أخرى، فيحطم قلبها ويمحو آخر وميض للحب فيه، وتكتشف بعد كل تلك السنين أنها كانت بالنسبة له مجرد أداة لتفريخ الأطفال، وعاملة منزلية تنظف البيت وتعد الأكل .

من المؤشرات المتميزة في المجموعة كذلك قدرة الكاتبة على التقاط اللحظة الإنسانية الكاشفة في حياة الشخصيات واستغلال طاقة الشد والتشويق فيها إلى أقصى درجة، سواء في الموضوعات المرتبطة بالعلاقة بين الرجل والمرأة أو الموضوعات المتعلقة بقضايا العمل ومشكلاته، والطلاب ومعاناة أصحاب الإعاقات، ومن وحي تلك المعاناة اختارت الكاتبة عنوان مجموعتها #187;للحياة نوافذ أخرى#171; الذي هو عنوان القصة الأولى في المجموعة، وقد عالجت فيها معاناة أم في تعاملها مع ابنتها التي ولدت بإعاقة جسدية جعلت الأم ترفضها في بادئ الأمر ثم بالتدريج تقبلتها، ثم أحبتها وصرفت نفسها لمساعدتها لتنمو وتتعلم، وأضحت البنت المسكينة هي كل شيء في حياة الأم، وقد استطاعت الكاتبة أن تصور مشاعر الأم وتقترب من أعماقها وهي على سرير الولادة خارجة لتوها من التخدير، وقد جلبوا لها تلك البنت المشوهة فأنكرتها نفسها، ولم يتقبلها جسدها وهي بين يديها: #187;لم أشعر لحظتها أنها تلك القطعة التي تنتمي إلي . . الجزء الذي غذيته من أعصابي وحنو مشاعري . . لم تكن أبداً وليدتي التي رسمت في خيالي . . عينيها . . شعرها . . أنفها، كل ما حلمت به يتحول إلى تضاريس كائن آخر#171;، وحين تأتي لحظة التغير وتقبل المرأة وليدتها تصف الكاتبة ذلك برهافة جميلة: #187;كنت أرفض أن أحملها . . فذلك يعني أنني أقبلها . . اشتد صراخها . . تحول لنحيب يقطع الأفئدة . . اندسست في فراشي وأنا أحاول جاهدة تجاهل بكائها المتواصل . . فجأة انقطع الصوت . . سقطتُ تحت أنقاض الخوف والقلق . . ركضت متناسية العملية الطرية . . كانت في مهدها تمص إصبعها بقوة . . انهار سياجي العنيد، وتدفقت الرحمة في مسامات جلدي . . تحولت لينابيع وأنهار . . وتدفق صدري حناناً وحليباً#171; .

هذا القبض المحترف على اللحظة الإنسانية في عمقها والتداعي المتوتر في الجمل الكاشفة هو أحد مواهب عائشة الزعابي في مجموعتها هذه وقد تكرر في عدة نصوص، ففي قصة #187;المفاجأة#171; نجد أنفسنا أمام فتاة تستعد لارتقاء منصة الزفاف واستقبال زوجها وسط فرحة وبهجة الجميع بها، وهي في كامل وقد تزينت بأغلى عقود الماس لكنها حزينة، لأنها لا تعرف زوجها وتحس بأنه فرض عليها من قبل أهلها، فتقرر عدم التجاوب مع الموقف وأن تبقى مطأطأة الرأس تدس وجهها خلف طرحة العروس التي تلبسها، وتلتقط الكاتبة ثقل لحظات الصعود على البطلة بدقة: #187;أضواء الكاميرات تقتل لحظات الهدوء، تصعد الدرجة الأولى من درجات المنصة، شعرت بالاختناق، تقدمت للثانية، والثالثة، توقفت لالتقاط صورة بلهاء أخرى، أختها تطلب منها أن تستدير للحضور يميناً وشمالاً، ثم خطوة للأمام، ثم الالتفات يميناً وشمالاً مرة أخرى، فتاتان تتهامسان وتحدقان النظر في طقم الألماس الذي يزين عنقها . . إنه يضغط عليها، يلفها كحبل المشنقة . . تتقدم نحو الكرسي، تلفظ جسدها المتهالك كجوال فارغ#171;، وبدلاً من الابتهاج يذهب تفكيرها خارج اللحظة لاستحضار مسيرتها ومآلات حياتها، محلقة بعيدة عن الصخب الذي يصم أذنيها ويشنج أعصابها، وخلال ذلك الانفصال النفسي تعمل الكاتبة على تعميق اللحظة الشعورية بتداعي ذكريات بطلتها عن حياتها السابقة ورفضها المتواصل للزواج الذي لا يكون عن حب وقناعة . من المؤشرات المهمة أيضاً قدرتها على التصرف بسهولة وسلاسة في الزمن القصصي، والزمن هو أحد العوائق الكبيرة أمام كاتب القصة حين يواجه خطية الأحداث وتسلسلها ويريد أن يقفز خارج ذلك التسلسل بحثاً عن إضافة مضيئة أو لحظة كاشفة في الماضي أو المستقبل أو غير محصورة بزمن، هنا يحتاج الكاتب إلى احتراف وقدرة على ضفر الأحداث بطريقة منسقة ومنسجمة، لا تشوش ذهن القارئ ولا تعيق تفكيره عن متابعة خيوط الأحداث وتنزيل كل منها منزلته الصحيحة في أصل حدوثه لكي يستطيع في النهاية أن يبني رؤية كلية، أو يقارب المنظور الدلالي الذي يسعى الكاتب لإبقائه في ذهنه، وتستغل عائشة تقنية المناوبة بين واقع اللحظة الحاضرة التي يجري فيها الحدث وبين الذكريات، ففي قصة #187;المفاجأة#171; الآنفة الذكر يشكل صخب الواقع وكثرة الأضواء المسلطة على العروس ووجودها في مركز الدائرة ضغطاً نفسياً يدفعها للشرود مفكرة في حياتها الماضية، وحين تريد الزعابي تأن رجع بطلتها من ذكريات الماضي إلى اللحظة الحاضرة تجعل إحدى صويحباتها تقول لها، وهن يتقدمن في اتجاه المنصة: #187;ابتسمي قليلاً#171;، فترتد إلى الواقع مما يسمح للكاتبة بإضافة تفصيل في مشهد اللحظة الحاضرة قبل أن تسرح مرة أخرى ببطلتها في الماضي لتستعيد حواراً سابقاً يبدو أن أمها قد أغلقت به كل سبل الاعتراض التي كانت تقدمها لتفلت من ذلك الزواج، ثم ترمي الكاتبة محفزاً قوياً يأخذ البطلة والقارئ معها إلى ذروة اللحظة الحاضرة: (ينبثق صوت من بداية الصالة: #187;العريس قادم#171;) .

المؤشر الأخير من تلك المؤشرات هو تمتع الكاتبة بقدرات لغوية وأسلوبية جيدة، فهي تجتهد في اختيار مفردتها بدقة، ونادرة هي الأخطاء النحوية والصرفية في نصها، كما أن لديها القدرة على التنويع في الأساليب وصناعة المجاز، وفي الأمثلة السابقة التي أوردناها لها ما يدل على ذلك، وتلك أهم مميزات الكتابة الجيدة .

رغم تلك المميزات فإن بعض نصوص المجموعة لم تسلم من المآخذ الفنية التي حدت من القيمة الجمالية لها، ومن تلك المآخذ أن الكاتبة حين تلقط اللحظة الكاشفة تطيل في وصف تلك اللحظة وتكرر وتذهب وتعود فيها عبر فقرات لا تقدم جديداً على الوصف الأولي لتلك اللحظة، خصوصاً حين يكون الحديث عن الألم والوجع فتقلبه الكاتبة إلى حالة مليودرامية مبالغ فيها، وتوقف الأحداث عند تلك اللحظة، والأصل أن الأولوية هي للحدث، لأنه هو أبلغ كاشف عن التأثرات النفسية .

كذلك فإن بعض الأحداث أو تبريراتها قد ربما تفتقد للإقناع المنطقي، مثل ما حدث في قصة #187;المفاجأة#171; التي بنت الكاتبة عقدتها على أن البطلة مفجّعة بسبب إرغام أهلها لها على زوج لم تعرفه ولم تره، في حين أنها شابّة متعلمة تجاوزت الثلاثين وهي موظفة على رأس عملها، ولا شيء يوحي باستحالة لقائها بخطيبها وتعرفها إليه قبل الزفاف، فهو كما تصفه القصة شاب طيب ومبادر ومتعاون .

الملاحظة الأخيرة تتعلق بخلو بعض القصص من عنصر المفارقة أو الدهشة التي هي الفرق الجوهري بين الحدث القصصي والحدث غير القصصي، فالحكاية في قصص #187;احتضار#171; أو #187;وجهان لعملة واحدة#171; أو #187;البئر#171; لا تحمل أي منها أية غرابة حدثية .

أخيراً، فإن تلك الملاحظات ليست إلا الاستثناء الذي يؤكد أهمية العمل الذي أنجزته عائشة الزعابي في مجموعتها هذه، ويدل على أنها بشيء قليل من الجهد وتجويد الكتابة، قادرة على أن ترتقي درجات في الإبداع .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"