عادي
معارك الكتب

محاكمة «مدام بوفاري» أمام القضاء الفرنسي

06:19 صباحا
قراءة 3 دقائق
عزمي عبدالوهاب

يظل الروائي الفرنسي «جوستاف فلوبير» (1821- 1880) مديناً بشهرته لرواية «مدام بوفاري» التي كانت سبباً في ذيوع شهرته عندما نشرها عام 1857،فهو لم يصدر سوى خمسة كتب طوال تلك المسيرة الأدبية، وعموماً، فإنه كان أهدى روايته إلى محاميه «جيل سينارد» الذي يرجع إليه الفضل في تمكينه من نشر الرواية بين دفتي كتاب، بعد أن نشرت مسلسلة في ست حلقات بمجلة «ريفيو دي باريس» من أكتوبر حتى ديسمبر 1856، ثم امتنعت عن نشر بقية الحلقات.
وكما يشير د. رمسيس عوض في كتابه «الرقابة وحرية التعبير في أيرلندا وفرنسا والبلاد الأوروبية الأخرى»، فقد كان فلوبير معجباً بفيكتور هوجو والماركيز دي ساد، واميل زولا، وكانت روايته «مدام بوفاري» تجنح إلى الواقعية، وبذلك كان يجمع بين الرومانسية والواقعية بجانب الرمزية، كما أنه أسهم في ترسيخ مبدأ «الفن للفن» لعنايته بالأسلوب وجماليات العمل الأدبي.
كان فلوبير عصبي المزاج، تنتابه من وقت لآخر نوبات الصرع، وقد ترك وراءه سيلاً من الخطابات والمراسلات التي تلقي الضوء على أدبه، وهو يعد حسب شهادة كبار الأدباء واحداً من أهم رواد الحداثة، وقد قام نابليون الثالث بتكريمه، حيث كان حريصاً على العيش في باريس طوال حياته، ولم يغادرها إلا بسبب رحلاته في الشرق الأوسط، حيث قضى خمسة شهور منها في مصر.
ولد فلوبير في 12 ديسمبر/‏‏‏كانون اول 1821 لأسرة تنتمي إلى بورجوازية الريف الفرنسي، وبدأ نشاط الأدبي في فترة مبكرة من عمره، وتدل أوراقه الخاصة على أنه مر بأزمة عاطفية، حيث وقع في غرام امرأة متزوجة تكبره بعشر سنوات، وانتهت هذه الأزمة بإصابته بالانهيار العصبي، وما لبث أن هجر دراسة القانون، لكن بعدما ذاع صيته استقبله نابليون الثالث في بلاطه، وأمضى سنوات عمره الأخيرة في شظف العيش، ورغم صداقته لكبار الأدباء في العالم فقد أصابته الكآبة في أخريات حياته نتيجة تدهور صحته وأحواله المالية، وفي 8 مايو/‏‏‏أيار 1880 أصيب بنزيف في المخ، أودى بحياته.
في عام 1857 قدم القضاء الفرنسي رواية «مدام بوفاري» إلى المحاكمة بتهمة البذاءة والانحلال، وقبل تقديم روايته للمحاكمة كتب فلوبير خطاباً لاحد أصدقائه قال فيه «إن أخلاقيات الفن تتلخص في جماله، وإني في المقام الأول أقدر الأسلوب ثم الحقيقة في المقام التالي»، وفي كل الأحوال كانت «مدام بوفاري» علامة بارزة على طريق الحداثة في الأدب الفرنسي.
بدأت المحاكمة بتقديم ممثل النيابة ملخصاً مستوفياً لأحداث الرواية وأبرز شخصياتها، ووجه إلى الرواية اتهامين، يتمثل أحدهما في انتهاك الأخلاق العامة، والآخر يتمثل في انتهاك الأخلاق الدينية، فضلاً عن أن ممثل النيابة اعتبر انتحار مدام بوفاري بالسم جريمة لا تغتفر، ويمضي قائلاً إنه يشبّه فلوبير برسام يرسم تابلوهات حية، يصور فيها الشهوة، ويتهم الرواية بأنها تمجيد للخيانة.
وكما يذكر د. رمسيس عوض فإن ممثل النيابة، كان متحاملاً على الرواية، وقرأ بين سطورها ما ليس له وجود، لينتقل إلى مذكرة الدفاع، حيث قال المحامي إن فلوبير متهم بتأليف كتاب يخدش الآداب العامة ويسيء إلى الدين، لكن فلوبير يقدر أن كتابه ينطوي على فكرة أخلاقية ودينية، وهذه الفكرة تقوم على تقديس الفضيلة عن طريق كشف سوء الرذيلة وأن «مدام بوفاري» لا تحض على ممارسة الرذيلة لكنها تحذر أي فتاة من عواقبها.
ويمضي الدفاع قائلاً: «إن لا مارتين عبر عن شدة إعجابه وتقديره للرواية، رغم أنه لم يكن عرف مؤلفها شخصياً، وقد قام بزيارته وقال له: «لقد أتحت لي تحفة أدبية لم يقع في يدي مثيل لها منذ عشرين عاماً»، ويوضح أن لجنة القراءة في المجلة المشار إليها سابقاً، أجازت نشر الرواية، لكن عندما وصلت إلى القسم الذي كان مقرراً نشره في عدد أول ديسمبر/‏‏‏كانون الأول 1856 اعترض أحد مديري التحرير على أحد المشاهد، وقرر حذفه «لما ينطوي عليه من فحش متخيل» واعتبر فلوبير أن هذا الحذف إساءة له واشترط إثبات الحذف في الهامش، حرصاً منه على عدم تشويه كتابه، وقد نبه هذا الحذف المحققين في مكتب مراقبة النشر إلى احتمال وجود أمر محظور، من هنا تفجرت القضية.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"