إنذار جزائري جدير بالانتباه

04:50 صباحا
قراءة 4 دقائق
«في شهر رمضان نحن نقول من أراد أن يأكل فليأكل، ومن أراد أن يصوم فليصم»، في شهر رمضان «نحيي النساء اللواتي رفضن ارتداء الحجاب». هذه العبارة وغيرها انتشرت على لسان المشاركين في الاحتفال باليوم الوطني «للوطن القبايلي» الجزائري، الذي جمع نحو 1500 شخص في ساحة حقوق الإنسان في تروكاديرو، في باريس نهاية الأسبوع الماضي.
المحتفلون لبوا دعوة شبكة «انفاد» القبايلية وقد رتلوا ما اسموه ب«النشيد الوطني البربري،» ورفعوا «العلم الأمازيغي»، أو العلم الوطني على حد تعبيرهم. واللافت في هذا الاحتفال استخدام تعابير من نوع «الجزائر الاستعمارية»، أو «شرطة الجزائر الاستعمارية»، أو «الجزائر هي عدونا المشترك»، وكان أبرز المتكلمين المغني الجزائري البربري الشهير فرحات مهني، الذي ما انفك يتحدث عن «الاستعمار» العربي الإسلامي لقبايل الجزائر.
للتذكير، فإن مهني وجه بارز من وجوه الحركة الانفصالية البربرية في الجزائر، وكاد يفقد حياته في طائرة فرنسية خطفها أعضاء في «الجماعة الإسلامية المسلحة» عام 1994، وجاؤوا بها إلى فرنسا، بيد أن السطات الفرنسية تمكنت من اقتحام الطائرة وتحرير الرهائن.
وللتذكير أيضاً، فإن التيار البربري الانفصالي كان، ولايزال هامشياً في الجزائر، لكنه أخذ منذ انطلاق ما يسمى «الربيع العربي» يصعد خطابه الانشقاقي، مستنداً إلى الأطروحات الاستشراقية التي تزعم أن الجزائر، وسائر المغرب العربي الكبير منطقة أمازيغية، «استعمرها العرب ونشروا الإسلام فيها، ودمروا هوية سكانها الأصلييين». وبالاستناد إلى هذه الأطروحة فإن الأمازيغ طالبوا مراراً بالاعتراف رسمياً بلغتهم، ودعا فريق منهم للانفصال عن الجزائر في منطقتي «بجاية» و«تيزي اوزو»، لكن اللافت في التحركات الانفصالية الجديدة هو التشديد على وصف الدولة الجزائرية ب «الاستعمار العربي الإسلامي» الأمر الذي يفسر الحديث عن الصيام والحجاب في شهر رمضان.
كان يمكن لهذه اللغة التحريضية غير المسبوقة، ولهذا النوع من الاحتفالات أن يتم من دون ضوضاء إعلامية، أو اهتمام واسع، لكن تزامنها مع حديث متزايد عن امتداد «الربيع العربي» إلى الجزائر وشمال إفريقيا، فضلاً عن السماح للمحتفلين برفع علم انفصالي جزائري، والدعوة الصريحة للانفصال من دون الاحتراز من أن يثير ذلك أزمة جزائرية - فرنسية، كل ذلك يحمل على القول إن جهة ما لا تريد أن تبقى الجزائر بمنأى عن «ربيع المشرق».

ما من شك في أن الحركة الانفصالية البربرية الهامشية جداً اليوم، يمكن أن تتسع صفوفها إذا ما تلقت الدعم والتشجيع من قوى إقليمية ودولية، تريد تصفية حسابات قديمة أو متراكمة مع الجزائر، أو تريد للدولة الجزائرية أن تكون في صف أنصار «الربيع العربي»، وليس بعيداً عنهم.

ولعل ما يميز هذه الحركة عن غيرها من الحركات الثقافية الأمازيغية في الجزائر دعوتها إلى الاصطدام بمكونين أساسيين من مكونات المجتمع الجزائري، هما الإسلام والعروبة. فقد لعبت هذه الثنائية التاريخية دوراً حاسماً في حرب الاستقلال عن فرنسا، علماً بأن الإدارة الكولونيالية جربت أيضاً ورقة الإنقسام داخل المجتمع الجزائري لكن من دون نجاح كبير في حينه.
قد يكون ما يميز الحركة هو نقطة ضعفها الأهم، فالتصدي للانتماء العربي والإسلامي للمجتمع الجزائري من شأنه أن يضع الأغلبية الساحقة من الجزائريين بمواجهة الحركة، وبالتالي أن يزيد في عزلتها، ويحرمها من التعاطف المحتمل في شمال إفريقيا، بخلاف الحركات المطلبية البربرية الأخرى التي كانت تلقى تأييداً كونها تطالب بالاعتراف بلغتها وثقافتها وأن تكون الأمازيغية لغة رسمية. وقد صارت بالفعل رسمية في المغرب وفي الجزائر، الأمر الذي أدى إلى خاتمة سعيدة لتحرك مطلبي مزمن. وقد أدى الاعتراف «اللغوي»، إن جاز التعبير، إلى انحسار هامش المناورة أمام التيار البربري الانفصالي فبدأ كأنه لا يرمي إلى تحقيق مطالب ثقافية وإنما إلى إعادة النظر في تكوين المجتمع الجزائري نفسه.
وعلى الرغم من صعوبة تحقيق تقدم في اتجاه تفكيك المجتمع الجزائري، وإعادة صياغته على أسس ثقافية بربرية، فإن الظروف الدقيقة التي يمر بها العالم العربي، ربما شجعت الانفصاليين البربر على المضي في مشروعهم التفكيكي كما لاحظنا. فمن المعروف أن حال العروبة هذه الأيام في غاية السوء بعد انهيار فضائها الأهم في سوريا والعراق، ومعروف أيضاً أن الإرهاب الذي تمارسه الجماعات الاسلامية المتطرفة في كل مكان، ونشرها صور الذبح والقتل على الملأ الحق أذى كبيراً بالدين الإسلامي. أضف إلى ذلك أن المنظومة العربية والإسلامية لاتني تتراجع على الصعد الإقليمية والدولية، ويساعد تراجعها على مجاهرة جماعات معادية لها برفضها، وبالتالي تصنيفها في خانة الاستعمار والاحتلال الذي يستدعي بالضرورة مقاومة.. الخ.

رب قائل إن «سنونوة» بربرية واحدة في باريس نهاية الأسبوع الماضي هي عصفور تائه لا يبشر ب«ربيع بربري»، على غرار «الربيع العربي»، فمثل هذا الربيع يحتاج إلى حشد أكبر وأهم، وإلى ظروف أكثر اضطراباً، وإلى انتشار اليأس والتذمر في المجتمع الجزائري أكثر من ذي قبل، وإلى أموال تضخ في أنشطة ووسائل إعلامية تواكبها من دون أن تبدو كأنها تتبنى قضيتها، وذلك كله ليس مطروحاً اليوم وهذا صحيح.. لكن الصحيح أيضاً أن المجتمع العراقي كان الأكثر اندماجاً في محيطه، فإذا به يصبح خلال سنوات قليلة الأكثر تفككاً بفضل التدخل الأمريكي، وإلغاء الدولة والجيش العراقييين، الأمر الذي يستدعي الحذر والريبة. فالشرق الأوسط يجتاز ظروفاً انقلابية لا تسمح أبداً بترف الركون إلى الثوابت التاريخية. لقد أكِل الثور الأبيض في العراق، ويؤكل أمام أعيننا في سوريا وليبيا. وإذا كان لحم الثور الأسود الجزائري مراً، وهو كذلك بالفعل، فهذا لا يعفيه من إبداء أقصى درجات اليقظة والحذر، لأن الوحوش مجتمعة في الغابة بانتظار صفارة الإنذار.

فيصل جلول
[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"