لماذا كنا نحارب؟

01:54 صباحا
قراءة 3 دقائق
عبدالله السناوي

أفضل ما قيل في وصف بطولات أكتوبر إن الإنسان المصري العادي بطلها الحقيقي، باعتراف القادة العسكريين الذين تولوا إعادة بناء القوات المسلحة من تحت الصفر بعد هزيمة يونيو ١٩٦٧، والتخطيط لاستعادة الأراضي المحتلة، فاقت الشجاعة المذهلة التي أبداها على جسور الدم أي حساب وقلبت كل ميزان عند الاحتكام للسلاح.
كان ذلك البطل المنسي جيلاً كاملاً من عامة المصريين صهرته تجربة القتال على الجبهات الأمامية لست سنوات متواصلة.. ودخلت الحرب عنصراً جوهرياً في تشكيل وعيه السياسي والاجتماعي والثقافي أكثر مما فعلت تجارب الحروب السابقة بالأجيال الأخرى.
الفارق حاسم بين نسبة النصر إلى الإنسان العادي المجرد وصفات مطلقة إيجابية في الشخصية المصرية، وبين نسبته إلى جيل بعينه ووعي بعينه، وبنى ثقافية سياسية ونفسية بعينها.
إنه الفارق بين المطلق والتاريخ. ثمة جيل حارب وتحمل عبء الحرب كاملاً ودفع ثمن النصر من دمه وعرقه قبل أن يتلقى في الأجواء السياسية والاجتماعية والثقافية التي تلت الحرب خذلاناً ليس له مثيل في تاريخ المنتصرين أي منتصرين في العالم!
عندما صمتت المدافع على جبهات القتال، طرح السؤال نفسه: لماذا كنا نحارب؟
في أعمال سينمائية عديدة مثل «زمن حاتم زهران» و«سواق الأتوبيس» و«المواطن مصري» و«كتيبة الإعدام» تبدت المفارقات الموجعة بين الذين عبروا الجسور من أجل أن يرفع هذا البلد رأسه، والذين داسوا على كل معنى قاتل من أجله المصريون.
لماذا كنا نحارب؟ القتال بذاته شرف وطني وضروري لاحتفاظ المجتمع بسلامته النفسية ونظرته إلى نفسه، لكنه لم يكن الهدف الوحيد.

امتزجت في تجربة الحرب رؤى وأفكار من بينها توسيع المشاركة السياسية وتصحيح الأسباب التي أفضت للهزيمة، وجرى أوسع نقد ذاتي لثورة يوليو وطبيعة نظامها، كما تشهد على ذلك محاضر ووثائق رسمية سجل فيها الرئيس «جمال عبدالناصر» رؤيته لأسباب الهزيمة. كما نشأت بالوقت نفسه في الجامعات المصرية حركة طلابية جديدة تنتسب بإجمالها ل«مشروع يوليو» في التحرر الوطني والعدل الاجتماعي والوحدة العربية دون أن تكون مستعدة لأي تسامح مع أخطاء النظام وأوجه القصور الفادحة فيه.
علت في المشهد الداخلي نداءات التغيير بذات قدر دعوات التعبئة العامة حتى يتسق أداء الجبهة الداخلية مع ما كان يجري من تضحيات في الخنادق الأمامية.
جيل الحرب هو نفسه جيل الثورة ومجانية التعليم والحق في الثروة الوطنية والأحلام الكبرى التي لامست السماء قبل أن تسقط من حالق. في أعقاب الهزيمة فرضت ضرورات تحديث القوات المسلحة دفع جيل بأكمله من خريجي الجامعات إلى صفوف القتال، للتعامل مع أحدث التقنيات العسكرية في ذلك الوقت.

انتصار أكتوبر في بعض معانيه تتويج لقيمة إتاحة فرص التعليم أمام فقراء المصريين، لا حكرها على القادرين وحدهم كما يحدث الآن. إلى ذلك حمل أبناء هذا الجيل من داخل مؤسسات القطاع العام عندما كان قطاعاً حقيقياً يقود خطط التنمية مسؤولية توفير الاحتياجات الأساسية للقوات المسلحة وتأمين الجبهة الداخلية اقتصادياً.
لم يكن كل شيء مثالياً، فقد كان هناك من يحاول استثمار أجواء الحرب لمقتضى مصالحه الخاصة، لكنها على كل حال تجربة إنسانية بإيجابياتها وسلبياتها، بأبطالها ولصوصها. بلغت المأساة ذروتها بعد أن توقفت الحرب، وبدأ عصر «القطط السمان» حسب التوصيف الذي شاع وقتها.

لست سنوات كاملة في الخنادق الأمامية أرجأ ذلك الجيل طموحاته وحقوقه الأساسية في بناء حياته الخاصة، إلى ما بعد تحرير سيناء المحتلة ودفع الثمن كاملاً دون ادعاء بطولة.
ثم كان عليه أن يدفع الثمن مرة ثانية من مستقبله بعد سياسة الانفتاح الاقتصادي، التي دشنها الرئيس «أنور السادات» عام ١٩٧٤، وأطلق عليها «أحمد بهاء الدين»: «انفتاح السداح مداح».
عندما عاد الذين قاتلوا من ميادين القتال وجدوا مجتمعاً غير الذي حاربوا من أجله وسياسات غير التي أملوا فيها.
كان عليه أن يواجه حرباً ثقافية وفكرية وإعلامية على قناعاته التي حارب بها ومن أجلها، فلم تعد «إسرائيل» مصدراً لتهديد الأمن القومي .
كانت حرب أكتوبر مشهدا مجيدا للوطنية المصرية في القدرة على التخطيط العسكري وبذل فواتير الدماء.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"