ذاكرة الوباء ومستقبله

03:35 صباحا
قراءة دقيقتين
د. حسن مدن

قبل عقد ونصف فقط من الآن، خصّصت مجلة «فورين أفيرز» ملفاً عما وصفته يومذاك ب«الوباء القادم»، ونشرت مجلة «الثقافة العالمية» الكويتية محتويات ذلك الملف، أو بعضها، بعد نحو عام، ومن ضمنها دراسة لباحث أمريكي مختص في الأوبئة، اسمه لوري جاريت، والذي قدّمته المجلة على أنه زميل أعلى للصحة العالمية في مجلس العلاقات الدولية، ومحرر لكتابي «الطاعون القادم» و«خيانة الثقة».
الدراسة طويلة، وتتضمن تحذيرات لا تنطلق من فراغ، وليست قائمة على نبوءات غيبية، وإنما تنطلق من دراسة تاريخ الأوبئة التي عرفها التاريخ الإنساني، من أن وباء فتاكاً قادم لا محالة وفي القريب، لعله هو نفسه الوباء الذي أصبحنا اليوم في لجته، وقال: إنه من الخطورة بحيث تفوق الخسائر البشرية الناجمة عنه نظيرتها التي نتجت عن الإنفلونزا الإسبانية قبل قرن.
لم ينظر الرجل إلى الوباء بصفته مسألة طبية فحسب، وإنما وضعه في سياق السياسات الاجتماعية، ومن ضمنها الصحية، المعنية لا بمواجهة الأوبئة حين تتفشى، وإنما أيضاً بالاستعداد لها قبل أن تاتي؛ لذا فإنه عبّر عن خيبة أمله من الساسة الذين يستخفون بموضوع مثل هذا، متصرفين وفق ذهنية أن زمن الأوبئة الفتاكة وسريعة الانتشار قد ولى.
ينقل الباحث عن زعيم منظمة الصحة العالمية في تلك الفترة تشبيهه للتوقعات حول الأوبئة المحتملة، وضرورة الاستعداد لها، بالتوقعات أو التنبوءات الجوية، فكما يمكن توقع مواعيد الأعاصير والمسارات التي يمكن أن تسلكها، وما يترتب على ذلك من إطلاق التحذيرات واتخاذ الاحتياطات، يمكن توقع قدوم الأوبئة على الرغم من أن أمر هذه الأخيرة أكثر تعقيداً، وقد لا يستطيع العلماء إنباء الساسة عن موعد الوباء؛ لكنهم بالتأكيد يستطيعون مدّهم بما يلزم من معلومات وتحليلات مدعمة بالأرقام والوقائع بأدق مما كان عليه الأمر في الماضي.
يومها قال هذا الباحث: إن قلة من أعضاء الكونجرس الأمريكي أو نظرائهم من أعضاء المجالس التشريعية حول العالم قد ولدوا عندما اكتسحت الإنفلونزا الإسبانية كوكب الأرض، وقد يكون بين هؤلاء من فقدوا آباءهم أو أمهاتهم أو أعمامهم أو خالاتهم في وباء 1918 - 1919، وربما سمعوا، إضافة إلى ذلك، قصص الرعب التي انتشرت في كل مكان، لكن السياسة حسب، قول صاحبنا الباحث، «توّرث قصر النظر»؛ إذ سرعان ما نسي الجميع كل ذلك وانصرفوا إلى الانشغالات الأخرى، بما فيها شن الحروب وتطوير الأسلحة وتجارتها، غافلين عن الخطر الماحق القادم، والذي أصبح واقعاً، لا يميز بين أمة وأخرى وطبقة وأخرى.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب من البحرين من مواليد 1956 عمل في دائرة الثقافية بالشارقة، وهيئة البحرين للثقافة والتراث الوطني. وشغل منصب مدير تحرير عدد من الدوريات الثقافية بينها "الرافد" و"البحرين الثقافية". وأصدر عدة مؤلفات منها: "ترميم الذاكرة" و"خارج السرب" و"الكتابة بحبر أسود".

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"