فرصة مهمة لسلطة عراقية اندماجية

06:01 صباحا
قراءة 4 دقائق
فيصل جلول

لنتأمل عن قرب في مضمون المبادرة التي أعلنها الشيخ مثنى حارث الضاري الأمين العام ل«هيئة علماء المسلمين في العراق» من أجل حل المسألة العراقية بوسائل سلمية وديمقراطية.

تعرض المبادرة "إجراء انتخابات حرة ونزيهة على أن يكون حيادها مضموناً"، وهو مطلب لا يتعارض مع الدستور العراقي الحالي الذي ينص حرفياً على الفقرة المذكورة.
وتطالب المبادرة بأن تجتمع الهيئة المنتخبة بحرية ونزاهة من أجل صياغة دستور جديد يأخذ في الاعتبار تطلعات ومصالح كل العراقيين.

ويحق للهيئة أن تطرح مطلباً من هذا النوع لأن الدستور القائم يستبعدها ويستبعد شرائح واسعة من المجتمع العراقي، وقد بينت تجارب العقد المنصرم أن الدستور القائم لم يحترم دائماً وخُرق في الكثير من المناسبات، وها هو رئيس الحكومة العراقية الحالية حيدر العبادي يقر بذلك ضمناً عندما بادر إلى إصلاحات جذرية ويعد بغيرها من أجل حكم أفضل، وتمثيل أفضل، وهذا يعني أن مطلب صياغة دستور جديد هو مطلب ديمقراطي تتعهده هيئة تمثيلية منتخبة في ظل شروط حيادية ولا غبار على تمثيلها.

وتتحدث مبادرة الضاري عن فرص دستورية متساوية للجميع تكف يد المتدخلين في الشأن العراقي وتقضي على المشكلات المطروحة، وهذا ما يتطلع إليه القسم الأعظم من العراقيين، مع الإشارة إلى أن كل الدساتير العادلة في العالم تتحدث عن المواطنة المتساوية معطوفة على الديمقراطية، وبالتالي لا يأتي الضاري ببدعة جديدة خارجة عن القوانين المعاصرة.
وتشدد مبادرة "هيئة علماء المسلمين" على استقلال العراق ووحدة أراضيه، وهو أمر لا يختلف حوله أهل البلد، ما خلا التيار الكردي الاستقلالي الذي يحلم بكردستان الكبرى والتاريخية.
وتلاحظ المبادرة أن أحد أهم أسباب الانشقاق بين العراقيين يتمثل في الانتقام السياسي جراء تغيير الأنظمة السياسية في البلاد، فقد تبادل الشيوعيون والبعثيون الانتقام عندما تتالوا على الحكم في بغداد، في خمسينات وستينات القرن الفائت، وارتكبت فظائع في عهد النظام السابق والعهد الحالي، لذا تدعو المبادرة إلى "استبعاد آليات الانتقام السياسي" في الدستور الجديد حتى تطوى صفحة الماضي وتفتح صفحة تسامح جديدة يدشنها الحكم التصالحي المأمول.
ويراهن الضاري على صيغة توافقية بين العراقيين تصون الدماء والأعراض، وتحول دون ما حصل ويحصل الآن، "في إشارة إلى حماية المشاركين في مشروع الحكم الجديد وطمأنتهم إلى مصير آمن لهم ولأسرهم وممتلكاتهم".
أكتفي بهذه الإشارات التي تفيد بأن "هيئة العلماء المسلمين" تعرض فرصة لمشروع عراقي توافقي ينقذ العراق من «داعش» والفساد، ويعيده إلى لعبة الأمم في الشرق الأوسط من موقع أكثر استقلالاً، وأكثر تطلباً للشراكة مع دول الإقليم، بدلاً من التبعية، وأكثر استعداداً لتوفير العدالة الاجتماعية والاقتصادية لأبنائه، بغض النظر عن انتمائهم الطائفي والعرقي والجهوي.
ثمة فئات تنتمي إلى الحكم الراهن، أو الأصح حكم المالكي، عبرت عن رفضها القاطع للمبادرة، وبالغت في كيل الاتهامات ل«هيئة علماء المسلمين»، عبر إضافتها تارة ل«داعش» وأخرى ل«القاعدة»، وسائر الجماعات الإرهابية، وحمّلتها مسؤولية الدماء التي سالت في شوارع بغداد والمدن العراقية الأخرى بعد سقوط نظام الرئيس العراقي السابق صدام حسين. ويبنى الاتهام على منطق فئوي يقول: إشراك الضاري في الحكم يوازي إشراك البغدادي في السلطة العراقية.
فئات أخرى قد تكون أكثر ترحيباً بالمبادرة الصادرة عن «الهيئة» لكنها لم تتظاهر حتى الآن بمواقفها وتلتزم الصمت للتأكد من حجم التأييد الذي يحظى به الضاري، إقليمياً ودولياً، وبخاصة موقف الولايات المتحدة وإيران، وليس معروفاً بعد ما إذا كانت مبادرة الهيئة منسقة مع أطراف خليجية ومصرية، مع ترجيحنا ألا تكون بنت الصدفة أو الارتجال، وهو أمر لا يتفق مع طبيعة الضاري الأب الراحل لتوّه منذ شهور، والابن الذي أعد طويلاً لتولي هذا المنصب، ما يعني أن المبادرة تنطوي على فرصة اختبارية لاندماج طرف أساسي في المقاومة العراقية ضد الاحتلال الأمريكي في سلطة ما بعد الاحتلال، وفي حكومة تريد الكفاح ضد «داعش» جنباً إلى جنب مع مكافحة الفساد، وتطهير أجهزة الدولة من المحسوبية والفئوية وتحقيق مزيد من العدالة لمكوّن عراقي أساسي أريد له أن يدفع ظلماً ثمن حكم الرئيس العراقي السابق صدام حسين.
وإن صح هذا التوقع فهو يعني أن السلطة العراقية تتصرف كالسلطة الجزائرية خلال الحرب الأهلية التي نزعت كل شرعية عن الإرهاب عبر التوافق مع المعتدلين أو الراغبين في الاندماج في الحكم، تمهيداً لعزل الإرهاب وإضعافه والقضاء عليه، والراجح أن هذا السيناريو هو الذي تشي به مبادرة مثنى حارث الضاري وإجراءات العبادي الصارمة بحق المقصرين والفاسدين.
تبقى الإشارة إلى أن "هيئة علماء المسلمين" لم تتبن يوماً أعمالاً انتقامية طائفية في أي من بياناتها المعلنة، ولعبت دوراً مهماً في مكافحة الاحتلال الأمريكي، وتمثل شريحة واسعة من العراقيين، وكانت تخوض قبل الانسحاب الأمريكي مفاوضات مع السيد مقتدى الصدر من أجل تشكيل مجلس عراقي للمقاومة، وقد ساهمت في فك الحصار عن مقاومة الصدر في النجف وكربلاء، وشاركت في عمليات عسكرية مع جيش المهدي، وبالتالي ليست جماعة فئوية أو طائفية منغلقة.
قصارى القول، أن بيان الهيئة يوفر فرصة تاريخية مهمة لاندماج سياسي عراقي يكسر الاصطفاف الطائفي، ويساهم في تبديد أجواء الفتنة وفي محاربة الفساد الذي يعتبر المسؤول الأول والأهم عن سقوط الموصل وأجزاء واسعة من العراق بيد «داعش» العام الماضي.
وحتى لا تضيع هذه الفرصة، ربما يترتب على رئيس الوزراء العراقي أن يطرق على الطاولة قائلاً: لقد انتهى عصر الفساد الذي كان مفيداً لقبضة من العراقيين ومضراً بكل العراق، وجاء عصر الاندماج السياسي بين كل مكونات الشعب العراقي التي تنتمي إلى العملية السياسية المستمرة منذ نهاية الاحتلال.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"