بؤس الدولة - الأمة

04:31 صباحا
قراءة 4 دقائق
فيصل جلول
تضم بلدة «كامزة» الواقعة في ضواحي العاصمة الألبانية تيرانا 200 ألف نسمة، هم حصيلة سكانية لفلاحين طردتهم الليبرالية المافيوية من الأرياف، بعد انهيار النظام الشيوعي الذي كان يرعى الفلاحين ويشتري محاصيلهم، فضلاً عن عمال وكوادر ومتضررين من النظام الجديد الموالي للسوق الوحشية.
كان يمكن لهذه المدينة التي نشأت في تسعينات القرن الماضي، أن تبقى طي الكتمان كبقية المدن البائسة في هذا البلد، لو لم تبادر بلديتها إلى إطلاق أسماء غربية على شوارعها، من بينها اسم «البنك الدولي»، ونيكولا ساركوزي، الرئيس الفرنسي السابق، وسيلفيو برلسكوني الميلياردير الإيطالي ورئيس الحكومة السابق، وجورج بوش الرئيس الأمريكي الأسبق، ومدن طوكيو وباريس ولندن، وأخيراً دونالد ترامب الذي عينته المدينة مواطناً شرفياً فيها، وقررت تسمية بولفار باسمه يبلغ طوله 700 متر.
وبما أن رئيس البلدية ينتمي إلى حزب يميني هو المسؤول عن هذه المبادرات، فقد قرر معارضه الاشتراكي أن يؤيد هيلاري كلنتون نكاية به، فكان سيئ الحظ إلى جانب ملايين الناس الذين ما كانوا يرغبون في فوز ترامب.
اللافت في قرار البلدية أنها وضعت اسم ترامب مكان «شارع الحرية» في وسطها، معتبرة أن الرئيس الأمريكي يرمز للحرية، وبالتالي جدير بالشارع الذي يعتبر أنيقاً بالقياس إلى شارع باريس الموحل، وشارع برلسكوني المتواضع. وغيره من الشوارع الأقرب إلى الأزقة منها إلى شوارع المدن المعروفة، بحسب «وكالة الصحافة الفرنسية»التي نقلت الخبر.
لكن ما الهدف من هذه المبادرة وما معناها؟ الجواب يأتي أولاً على لسان رئيس البلدية اليميني الذي قال إن مدينته هي مدينة الحرية، وإن أسماء شوارعها يجب أن تكون مزينة بأسماء قادة العالم، ومدنه، ومؤسساته الحرة.
هذا التبرير كان يمكن أن يكون ملائماً لو أن المدينة الألبانية اختارت أسماء «جان جاك روسو»، أو «سبينوزا»، أو «فولتير»، أو «جون لوك»، أو «نيلسون مانديللا»، أو «العربي بن مهيدي»، أو «عمر المختار»، أو «ديان بيان فو»، أو «سايغون»، أو «بنزرت»، أو «بور سعيد»، أو غيرها من الرموز التي قاتلت من اجل الحرية، أو كانت مواقع انتصر فيها الأحرار على الظلمة والمستعمرين. لكننا لا نعرف معنى الحرية التي تريدها البلدية عندما تعطي اسم أهم شارع فيها لرئيس أمريكي يضيق قسم واسع من شعبه ذرعاً به، ويريد أن يقيد حرية مواطنيه في الإفادة من ضمان اجتماعي ميسر، ويرغب في منع مواطني 6 دول من حرية السفر إلى بلاده، معتبراً إياهم كلهم إرهابيين لا يحق لهم زيارة أمريكا. ولا نفهم لماذا يترتب تكريم رئيس أمريكي لا يعبر عن حزنه لسقوط عشرات العائلات البريئة في قصف غربي وحشي لمنازل عراقيين في الموصل، لا يمتون بصلة إلى «داعش»، فضلاً عن إصراره على بناء جدار عازل بين الشعبين الأمريكي والمكسيكي.. الخ.
إن ترديد شعار الحرية على الطريقة الغربية لا يكتم المعنى الحقيقي لهذه المبادرة البائسة، وأعني بذلك استدراج مساعدات، بل فتات تليق بالبائسين، والراجح أنها لن تأتي، ذلك أن «الأحرار» من طراز برسلكوني، وساركوزي، وترامب، لا يقيمون وزناً إلا لمن يقف نداً أمامهم، والبقية لا يستحقون العطف. لقد رأينا ذلك من خلال تقبيل برسلكوني أيادي القذافي على هامش القمة العربية في ليبيا 2010 لشكره على الاستثمارات الليبية في إيطاليا، ومن بعد في مشاركته إلى جانب ساركوزي وكاميرون في الحملة الجوية التي دمرت البنية التحتية الليبية وقتلت عشرات الآلاف من الليبيين الذين زعم الثلاثي شن الحرب لحمايتهم.
أما البعد الأعمق لهذه المبادرة فهو يتصل بالنظام الدولي الذي استقر بعد الحرب العالمية الأولى على قاعدة الدولة الأمة، ونشوء دول - أمم زاد عددها مؤخراً على 200 دولة. والمشكلة التي يطرحها هذا النظام تكمن في حجم الأمم ودرجة استقرارها ووعيها ووسائلها وأدوارها التاريخية، فالأمم القوية بنت دولاً مسيطرة، وسيدة، كما هي الحال في الأمثلة المذكورة أعلاه، والأمم الهامشية أو الضعيفة أنشأت دولاً هامشية وضعيفة لا قيمة كبيرة لها في العلاقات الدولية.
وفي حين تطلق الأمم القوية أسماء أبطالها، ومؤسسيها، ومفكريها على شوارعها لتقديس جبروتها، وتطلق الأمم الضعيفة والتابعة أسماء متبوعيها، وتواريخهم، وآثارهم على شوارعها ومرافقها. وعندما يرطن «ترامب» بالحرية وهو الذي يرى كل شيء بمنظار العملات الصعبة مدعياً أن ما يفعله هو الحرية، ولا شيء غيرها، تنعكس صورته في وسط ضاحية «كامزة الألبانية» البائسة التي قد لا نفاجأ ذات يوم إذا أن قرأنا خبر إطلاق اسم «ماكدونالد» على احد شوارعها بوصفه طبق الحرية الشعبي في العالم.
كانت البانيا خلال الفترة الشيوعية تستفيد من التوازن الدولي الذي كرسته الحرب الباردة، لتلعب دوراً منفرداً، إلى حد أن ماركسيين من العالم الثالث انبهروا بدورها وصموها وقدرتها على التمرد على العملاقين الصيني والسوفييتي من جهة، والأمريكي من جهة أخرى، علما بأن رئيسها الأوتوقراطي الراحل أنور خوجا بنى شبكة دفاعية في بلاده جعلت خصومها ومنافسيها يتريثون كثيراً قبل استفزازها والاعتداء عليها. لكن المؤسف أن موجة الحرية الكاذبة التي انتشرت بعد انهيار الاتحاد السوفييتي جعلت الناس يظنون أن اتباع الأمريكي المنتصر في الحرب خير من الوقوف بوجهه، وبالتالي خسارة الدنيا والآخرة.


[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"