مكر التاريخ إذ يفعل في الحاضر

06:07 صباحا
قراءة 3 دقائق
د. علي محمد فخرو

ظاهرة الجهاد التكفيري العنيف، ممثلة في الوقت الحالي «بالقاعدة» و«داعش» وفراخهما، ستبقى لاعباً رئيسياً في ساحات السياسة والثقافة العربية لسنين طويلة قادمة.
وككل الظواهر المتشابكة المعقدة ستحتاج إلى مزيد من فهم جذورها ومسبُباتها كلما طال عليها العهد وزادت مخاطرها.
وحتى الآن تركزت دراسة هذه الظاهرة حول جذورها الفقهية الإسلامية واستعمالات أصحابها الانتهازية لذلك الفقه فيما يرتكبونه من حماقات خارج العقل وخارج العدل الإلهي. لكن هناك الجانب التاريخي الذي يستحق أن يدرس كتفسير جزئي لهذا البلاء الإرهابي الذي يعمُ الأرض العربية. ذلك أن التاريخ لا يكشف مدى التطابق والتماثل بين أحداث الحاضر وأحداث الماضي فقط وإنما يكشف أيضاً مدى استمرارية أفكار وثقافات وسلوكيات وهواجس الماضي في واقع الحاضر.

من هنا حاول البعض إجراء ذلك من خلال عمل مقارنة دينية وسياسية بين فكر وممارسات مجمل حركات الجهاد التكفيري العنفي في حاضرنا، وبين فكر وممارسات حركة الخوارج في التاريخ العربي الإسلامي.

إن أهم تشابه هو في أمرين. الأمر الأول هو في الشعار السياسي، الكامن وراء قناع ديني، القائل بأن «لا حكم إلا لله». وهو شعار رفعه الرافضون للتحكيم الشهير فيما بين جيش الإمام علي بن أبي طالب من جهة، وجيش معاوية بن أبي سفيان من جهة ثانية. وهو الشعار الذي بقي الأساس والمنطلق لا في بداية تكون حركة الخوارج، بل طوال عنفوان تواجدها العسكري والسياسي الثوري لعقود طويلة.
إن أخطر ما في ذلك الشعار هو أن الخوارج نصبوا أنفسهم كمحتكرين وحيدين لتفسير معنى ذلك الشعار وما يترتب على ذلك التفسير من صراعات سياسية وعسكرية. لقد كان على الجميع قبول قراءتهم للقرآن وتفسيرهم لآياته، وبالتالي قيامهم بالإفتاء وباستنباط الأحكام على ضوء تفاسيرهم تلك.

أليس أساس ومنطلق شعارات الجهاد التكفيري حالياً هو نفس الشعار، واحتكار تفسيره من قبل أتباع «القاعدة» وأخواتها، وعدم قبول وجهات نظر كل المرجعيات الدينية الكبرى، هو الذي تمارسه قيادات تلك الحراكات؟ أليس تغليف الممارسات العسكرية والسياسية تجاه الأبرياء وتغليف النهب والتدمير الاقتصادي بالوجه الديني لذلك الشعار هو الذي نراه في ما يسمى ب «دولة الإسلام»؟

ثم أليس رفع شعار «البيعة لله عز وجل»، الذي رفع لتبرير رفض إعطاء البيعة للإمام علي في السابق، هو نفس الشعار الذي يرفع الآن لرفض كل سلطة حكم في أرض العرب، حتى ولو انبثقت عن انتخابات معقولة ونزيهة كما هو الحال في تونس على سبيل المثال؟

الأمر الثاني هو التشابه في استعمال العنف الهمجي في شتى أشكاله. فمثلما ردُ الخوارج على عنف الدولة الأموية بعنف تجسد في عمليات انتحارية استهدفت رجالات الأمن وأعوان السلطة من جهة، وطالت مسلمين أبرياء في بعض الأحيان، فإن الجهاد التكفيري يتفنن اليوم في تنفيذ عمليات انتحاريه دامية وبشعة بحق الأبرياء من المصلين والمتسوقين ومرتادي المطاعم والمدارس. وكما تجسد العنف في الماضي في شكل استعراضات علنية بشعة في طرق قتل المخالفين والمترددين نراه اليوم ممارساً في طول وعرض العالم من قبل أتباع الجهاد التكفيري العنفي.
ذلك التشابه هو مكر التاريخ، إذ يتلاعب بالحاضر ويشوهه. وهو تشابه انتقائي يتبنى الغلو في الدين الذي لا يمكن إلا أن يقود في النهاية إلى عدم فهم الدين.

إلى هنا وينتهي التشابه، وهو تشابه بين المتطرفين والمتعنتين في الماضي والحاضر. فقد كان بين قادة الخوارج أصحاب ورع وزهد، وككل الحراكات الكبرى في التاريخ انقسموا مع مرور الوقت إلى عدد كبير من الفرق والتوجهات والأفكار والممارسات المتنافرة مع بعضها بعضاً، والتي فيها الصالح والطالح.

لكننا معنيون بالأفكار والممارسات المتطرفة غير العقلانية التي صبغت حركة الخوارج، خصوصاً في مراحل تكونها الأولى، والتي يظهر أنها استمرت عبر القرون في الكمون في ثقافة الأمة الدينية والسياسية، لتظهر الآن في العلن في شكل انفجارات هائلة وممارسات بشعة تهدد مستقبل هذه الأمة.

ما نحتاج أن نعيه هو أن ذلك التشابه دليل آخر للحاجة الملحة لمراجعة تفكيكية نقدية للإرث العربي والإسلامي. وهي مهمة بدأها كبار العلماء والمفكرين منذ قرنين، ولا زالوا يقومون بها.

لكن ما يحزن هو أن الوصول إلى نهاية تلك المهمة ستطول وتطول في امتدادات مستقبل أمة العرب ووطن العرب ما لم توضع جهود أكبر وأكثر فاعلية في الواقع العربي المتردي.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

شغل منصب وزير الصحة ووزير التربية والتعليم سابقاً في البحرين. متخصص في كتابة مقالات في شؤون الصحة والتربية والسياسة والثقافة. وترأس في بداية الألفين مجلس أمناء مركز البحرين للدراسات والبحوث. كما أنه عضو لعدد من المنظمات والمؤسسات الفكرية العربية من بينها جائزة الصحافة العربية المكتوبة والمرئية في دبي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"