الاشتراكية الفرنسية على حافة الهاوية

05:43 صباحا
قراءة 4 دقائق
فيصل جلول
كان المشهد في مقر الحزب الاشتراكي في شارع «سولفيرنو» الراقي في وسط العاصمة الفرنسية سوريالياً إلى حد كبير، نهار الأحد الماضي. فقد اختار الرئيس السابق فرانسوا هولاند مقر الحزب للإعلان عن حصيلة ولايته الرئاسية، بعد تسليمه قصر الإليزيه لخلفه المنتخب «ووريثه» غير المعلن ايمانويل ماكرون.
قال واثقاً ومن دون أن يرف له جفن أنه يترك بلاده في حال أفضل مما كانت عليه يوم تسلم الحكم من نيقولا ساركوزي، في حين يجمع الخبراء على أن ولايته كانت الأسوأ في تاريخ الجمهورية الخامسة.
الجانب المضحك المبكي في هذا المشهد، تمثل في التصفيق والترحيب الذي رد به الحاضرون على كلمة هولاند، إذ قال له البعض شكراً، وقال بعض آخر«برافوووو»، رافعين وروداً حمراء كانت منذ وقت طويل رمزاً يعتمده الحزب في حالات التحدي والانتصار.
البادي أن فرنسا لم تكن أفضل حالاً في ظل رئاسة هولاند، ولا الاشتراكية الفرنسية المتداعية، ولم يكن حال «شعب اليسار» وفق تعبير الرئيس الاشتراكي الراحل فرانسوا ميتران أحسن، وأكثر تقدماً.
فرنسا الهولاندية، تضاعف عجزها المالي وفشلت في تلبية المعايير الأوروبية، وخضعت لميزان قوى أوروبي صارم تتصدره ألمانيا، وفشلت في الحؤول دون خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وتعرضت لموجة إرهابية غير مسبوقة، ولتهميش على الصعيد الدولي، لاحظنا وجهه الأول في تفرد الحليف الأمريكي في القرارات الدولية، وفرض ما يريده على فرنسا وأوروبا، وأحياناً من دون استشارة أحد، كما حصل حين قرر أوباما عام 2013 التخلي عن الحليف الفرنسي المستنفر عسكرياً وبالتالي الامتناع عن توجيه ضربة عسكرية إلى سوريا، أو حل مشكلة النووي الإيراني مهملاً الاعتراضات الفرنسية المعلنة على هذا المشروع الإيراني.. الخ.
أما حال «شعب اليسار»، فيمكن قياسه بواسطة إجراءات وإصلاحات اعتمدها الرئيس الفرنسي «الاشتراكي»، من بينها قانون العمل الجديد المعروف باسم «قانون مريام الخمري» وهو في حقيقته قانون ايمانويل ماكرون الذي صممه ودفع به قبل استقالته من الحكومة، وتجمع النقابات العمالية، والقسم الأعظم من الرأي العام الفرنسي، على انه يحرم العمال والمستخدمين من ضمانات عقود العمل، ومن إنجازات حققوها منذ عشرات السنين، ويحرر الرساميل الشرهة من ضوابط وقيود أساسية ويزيدها سطوة وتوحشاً.
أما القانون الثاني فهو اجتماعي، وقد مر تقريباً مرور الكرام، ويقضي بتخفيض فترة العزاء للموظف من أسبوع إلى 3 أيام، وهذا يستدعي بعض التفصيل، حيث إن الموظف، أو العامل، كان بوسعه الإفادة من إجازة لمدة أسبوع مدفوعة الأجر في حال وفاة والده، أو والدته أو أحد إخوته وأخواته، بيد أن أرباب العمل كانوا يحتجون دائما على طول الإجازة، ولكن الحكومات اليمينية ما كانت تتجرأ على المس بهذا القانون ذي الطابع الإنساني البحت، فكان لا بد من حكومة اشتراكية لكي ترتكب هذا «الإصلاح» القميء.
ولعل حال الحزب الاشتراكي الفرنسي الذي حمل هولاند إلى الرئاسة، والذي صفق له الأحد الماضي هو الأسوأ، بل ربما يسجل التاريخ لفرانسوا هولاند تسببه في انهيار هذا الحزب الذي فشل للمرة الثانية في تمثيل اليسار، وبالتالي تجاوز الدور الأول من الانتخابات الرئاسية لمصلحة اليمين المتطرف، وكانت المرة الأولى في عهد رئيس الوزراء السابق ليونيل جوسبان عام 2002.
دراما الحزب الاشتراكي الفرنسي عرضت تفاصيلها على البث المباشر، فقد قرر الحزب اعتماد الطريقة الأمريكية في اختيار مرشحه الرئاسي عبر انتخابات حزبية تمهيدية، فوقع الاختيار على بنوا هامون الذي يمثل جناحاً راديكالياً في الحزب، وليس على رئيس الوزراء المستقيل مانويل فالس. كان الاختيار يعكس ضيق الحزب بالسياسية التي اعتمدها رئيس الوزراء الاشتراكي السابق بموافقة رئيس الجمهورية التي تحمل اسماً منافقاً «الاشتراكية الليبرالية»
لم يلتزم فالس بقواعد اللعبة، ولم يقف خلف المرشح الذي اختاره الاشتراكيون لتمثيلهم في رئاسيات 2017، إذ قرر علنا تأييد إيمانويل ماكرون ضد مرشح الحزب موجهاً ضربة قاصمة أولى، ستليها ضربة ثانية بعد فوز ماكرون، إذ قرر فالس الترشح للانتخابات النيابية على لوائح الرئيس المنتخب من دون أن يكترث بوحدة الحزب وبقواعد السلوك الحزبية، لا بل ذهب بعيداً في قوله «إن الحزب بات ينتمي إلى الماضي»، ولم يكن بحكمه هذا بعيداً عن رئيسه فرانسوا هولاند الذي دعا هو ايضاً إلى انتخاب ماكرون في الدورة الثانية، ولم يكن متحمساً لهامون، ونسبت إليه شائعة تقول انه صوت لماكرون في الدورة الأولى أيضاً ضد مرشح الحزب الرسمي، هذا الحزب الذي قدم له قصر الإليزيه على طبق من فضة.
لقد بدا هولاند في مقر الحزب الاشتراكي كأنه يقول لرفاقه لقد كنت «اشتراكياً» في ولايتي، رغم نكرانكم واختياركم بنوا هامون، ويتوجب على الحزب لو أراد البقاء موحداً أن يعتمد «الاشتراكية الليبرالية»، هذا المفهوم الذي لا يعني شيئاً، ولا يحيل إلى مرجعية يسارية تاريخية، وليس نتيجة أيديولوجية لمسار الحزب الذي أسسه في بداية القرن العشرين جان جوريس (1905) لكي يدافع عن مصالح الطبقة العاملة، وحتى يقوم بثورة وليس بإصلاحات، ذلك أن «التناقض الطبقي» لا يحل إلا بالثورة والانتفاضة على «الجشع الرأسمالي».
يعتقد هولاند أن التاريخ سينصفه، وأن إصلاحاته يرى الفرنسيون اثرها لاحقاً.. بالانتظار سيظل هذا الرئيس الأقل شعبية بين نظرائه وحامل قبلة الموت لحزبه الذي يقف على حافة الهاوية.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"