الفيروس يفتك بإنسانيتنا

04:00 صباحا
قراءة 3 دقائق
د. خليل حسين

هذا العدو غير المرئي جعل إنسانيتنا على المحك، وظهر على هيئة وحش ينقض على إرثنا

أخذت أيديولوجيا العولمة أكثر من نصف قرن لتفرض نفسها بين المعتقدات العالمية ذات الوزن، وبعدما كُتب فيها ورُوّج لها ما لم تأخذه أي أيديولوجية أخرى، أتى كائن مجهري ليغير صورة هذه الفلسفة التي أبرزت العالم قرية كونية صغيرة. اليوم أجبر فيروس «كورونا» دول العالم كافة على القوقعة، وإغلاق حدودها الخارجية، حتى ضربت التواصل الداخلي، وأنتجت أنظمة وتعاميم لها أول وليس لها آخر، أعادت مجتمعاتها وشعوبها إلى غابر العصور، حيث الخوف من الآخر قد حكم سلوكيات البشر آنذاك.

فيروس مجهري ضرب البشرية بإنسانيتها فجعلها عالماً رقمياً ذا عداد بين الإصابات والقتلى، بين الشرائح العمرية الشابة والمعمِّرة، المنتجة والعالة على الآخرين التي لا تستحق الحياة، فيروس قضم إنسانيتنا وضربها في فكرها وثقافتها وحضارتها، وجعلها مجرد أقزام تنتظر قدرها وتنتظر دولاً متقدمة تبحث عن حلول خاصة لها، وإن اقتضى الأمر دون التعميم للآخرين، فيروس حطم إنسانية عمرها من عمر هذا الكم الهائل من التطور المعرفي، في وقت ما زلنا أيضاً مصرين على الماورائيات لإنتاج حل يعيدنا إلى الحياة والإصرار على عداء من نسميهم الكفرة، رغم أن هذين النوعين من البشرية يتساويان حالياً في تدمير الذات البشرية.

أنظمتنا اليوم، تمارس عربدة لا مثيل لها بذريعة الحماية الصحية، تحجر على أفواه مواطنيها مع حجرهم عنوة وطوعاً، ربما إجراء لا بديل له، ولو كان أشد فتكاً من الفيروس نفسه، وفي وقت تبحث مجتمعاتنا عن نفس حرية تقتات عليه. أنظمتنا كباقي أنظمة العالم لم تُسخّر مواردها لتطوير حاجاتها، فبدت في موقع رد فعل سيّئ لوباء حوّل البشرية ودولها إلى قرية كونية موبوءة تنتشر فيها رائحة الحذر والخوف والقلق من مصير مجهول معلوم.

ضرب الفيروس اقتصاداً عالمياً بات على وشك الانهيار، نتيجة الانغلاق والانعتاق، البورصات تداعت أسهمها وحجمت عمليات تداولاتها، وسط خسائر بآلاف المليارات من الدولارات، أسعار النفط انخفضت إلى مستويات غير مسبوقة في فترة زمنية قصيرة، نتيجة حرب شعواء بين بعض المنتجين والمستهلكين. اقتصاديات دول عظمى مهددة بالانهيار بعد توقف التبادل الاقتصادي والتجاري بينها، باختصار اقتصاد عالمي يتهاوى على وقع انهيار عولمة حكم فكرها عقوداً طويلة.

اليوم يبدو هذا الفيروس قد قزَّم منظومة عالمية بنيت على قواعد نشر التعاون وحفظ الأمن والسلم الدوليين، وحوّلها إلى مجموعة من الغيتوات منغلقة على نفسها، حذرة خائفة مرتابة لا تعرف كيف تتعامل مع عدو تعتبره مجهول الشكل والوسائل والمصدر، موجه إليها تحديداً ليفتك بها، فيما تغيب وسائل التعاون لمكافحته علمياً، وتعتبر أي محاولة أحادية إنجازاً بشرياً، لكنه مغلف بخلفيات تجارية واضحة لا لبس فيها؛ بل ثمة من يساوم ويجاهر بأن من حقه الاحتفاظ بأي علاج ممكن لشعبه دون غيره، فيما تنتشر الاتهامات المتبادلة بأن إحدى الدول هي التي نشرت الفيروس، وتمتلك وسائل علاجه.

لقد أدى هذا الانعزال والانعتاق إلى ضرب أحد أبرز المظاهر الاجتماعية المتصلة بالتطور المجتمعي، وهو توقف التعليم بكافة مستوياته وفي كل الدول، حيث مئات الملايين خارج أماكنها العلمية المفترضة، وحتى الدول المتقدمة التي لها باع طويل في التعليم عن بُعد، فشلت في إيجاد حلول مبتكرة لمعضلة عالمية مستجدة وغير مسبوقة.

وفي الجانب الاجتماعي أيضاً، ثمة تداعيات سلبية كثيرة ستظهر على السلوك الفردي والأسري والمجتمعي، وهي مظاهر أسهمت العولمة في قوننة قواعدها وقوانينها المحلية والدولية، وجعلتها جزءاً من منظومة متماسكة يصعب اختراقها، فأتى الفيروس المجهري ليضرب معالم كلّفت جهوداً للوصول إليها.

باختصار، عدو غير مرئي يضرب العالم دولاً ومجتمعات في وقت لا حلول له في المستوى المنظور قبل الفتك بالملايين بحسب التقديرات، وقد جعل هذا العدو غير المرئي إنسانيتنا على المحك، وظهر على هيئة وحش ينقض على إرثنا، فهل سنستوعب نحن البشر ما جنته أيدينا باسم التقدم العلمي؟ وهل ثمة من يجرؤ على الإجابة؟ نشك بذلك.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه دولة في القانون الدولي .. رئيس قسم العلاقات الدولية والدبلوماسية في الجامعة اللبنانية واستاذ القانون الدولي والدبلوماسي فيها .. له أكثر من 40 مؤلفاً ومئات المقالات والدراسات البحثية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"