نسيج الدولة العربية هو المشكلة

01:27 صباحا
قراءة 3 دقائق

أثبتت الثلاث سنوات الماضية من عمر ثورات وحراكات الربيع العربي، ومن قبلها حقب قرون تاريخ العرب، أن مشكلة المشكلات كلها هي الدولة العربية: أسس قيامها، نوع وعلاقات مؤسسات إدارتها، مقدار التوازن بين مجتمعاتها وبين سلطات حكمها .
بسبب وجود نواقص في كل تلك الجوانب من تركيبة الدولة العربية أصبحت دولة تستعصي على الإصلاح التدريجي المعقول وتتخبَّط في التعامل مع انفجار الثورات أو الحراكات الكبرى في بداياتها، وبالتالي تصر على إيقاف وتجميد الزمن لتصل في النهاية إلى الفوضى والانقسامات المفجعة وإمكانيات التَّلاشي كدولة .
أساس الإشكال يكمن أولاً في أن معظم بلاد العرب لدينا سلطات وليست دولاً بالمعنى المتعارف عليه . وهي سلطات تتمثَّل في أشكال كثيرة . فقد تكون سلطة عسكرية أو تكون أقلية مذهبية طائفية أو قبلية متنفذة أو تكون حزباً قائداً طليعياً مهيمناً على كل ماعداه .
لقد تميًّز تاريخ تلك السلطات، في أي شكل تمظهرت، بابتلاعها للدولة، بخيراتها المادية والمعنوية، وباستغلالها أبشع الاستغلال وبنهبها بصورة منهجية لارحمة فيها . ثم قامت هذه الدولة، المسروقة الفاسدة، من خلال ممارسة الاستبداد، بابتلاع مجتمعها، بحيث لم يعد للمجتمع وجود فاعل قادر على مراقبة ومساءلة ممارسات وخطايا سلطات الدولة، التي هي في الغالب لديها مشكلاتها مع شرعيتها غير الديمقراطية .
مثل هكذا سلطات ما كان يمكن إلاً أن تبني دولة تسلطية تمارس الاستبداد التاريخي القديم ولكن بوسائل بيروقراطية عصرية من خلال تدخُّل وهيمنة سلطات الدولة على السياسة والاقتصاد والإعلام والثقافة، وبالتالي تجعل مجتمعاتها تابعة ضعيفة وذليلة لا حول لها ولا قوة .
الدولة العربية الحديثة، إذاً، لا يمكن وصفها بالدولة المدنية، ذلك أن الدولة المدنية هي دولة الشعب الذي يسكنها، دولة المواطنين المتساوين في الحقوق والواجبات، المتساوين أمام قانون غير تمييزي، عادل . وهي بالتالي دولة غير ديمقراطية، لا سياسياً ولا اقتصادياً ولا اجتماعياً .
على ضوء تلك الخلفية للدولة العربية الحديثة، حيث تختصر الدولة في سلطة ويضمر المجتمع حتى التلاشي في الوجود الفاعل الحقيقي، يستطيع الإنسان أن يفهم ظاهرة تأرجح الحياة السياسية في الدولة العربية في الشكل والصورة، ولكن دائماً داخل إطار التسلط والاستبداد الذي لايختفي قط .
من هنا نستطيع أن نشخص تاريخ هذه الدولة العربية الحديثة أو تلك، ولا تهمُ الأسماء . إنه عبارة عن تاريخ تأرجح من دولة تسلطية، بوسائل برلمانية ليبرالية مظهرية مزيَّفة، إلى تسلطية عسكرية، بشعارات قومية أو اشتراكية، إلى تسلطية، بخليط من القبضة الأمنية الحديدية وليبرالية برلمانية شكلية يسيطر عليها الحزب الواحد، إلى تسلطية دينية، بشعارات إسلامية لتغطية انتهازية سياسية . وهذا التأرجح العبثي السطحي بين هذه الصور التسلطية يظلُّ يدور حول نفسه في حلقة مفرغة لا تخرج، كما ذكرنا، عن إطار النظام السياسي المستبد الفاسد .
والملاحظ أن هذا التأرجح يعتمد في الأساس على مبدأ الترضيات الفئوية، أحياناً ترضية العمال والفلاحين، وأحياناً ترضية رجال الثروات والمال، وأحياناً ترضية أتباع مذهب أو قبيلة وأحياناً بالطبع ترضية لقوى الخارج .
في جميع الأحوال تثبت الأيام أن الصورة الجديدة للحكم ليست أكثر من علاج مؤقت لا يلبث أن يفشل بسبب زيف الدواء أو بلادة الطبيب أو استمرار تفاقم المرض .
تلك الصور المتبدلة في مظهر الحكم في الدول العربية، تجسدت بأفضل الصور، ويالسخرية القدر، قولاً شهيراً لطاغية من طغاة القرن العشرين، هو جوزيف ستالين، الذي ينسب إليه قوله "إن الدولة هي أداة في أيادي طبقة الحكم، تستعملها لكسر مقاومة كل أعداء طبقتها" . والعدو في الحالة العربية هو جموع الشعب، وهي تحاول أن يكون لها وجود وصوت وفعل في دولتها .
علاج داء الدولة العربية، ذاك المعقد المتجذر في التاريخ والحاضر، لن يكون تواجد البطل الكاريزمي الذي يأتي ولا يأتي في مسرح حياة العرب، ولا المباركة الخارجية المتقلبة في الأهواء التي تحج إليها الركبان، ولا الاكتفاء بالحديث عن الشعارات القيمية الأخلاقية الإسلامية على أهميتها، ولا بالسقوط المعيب تحت أجنحة العولمة وإملاءاتها التي بعضها كارثي .
علاج الداء ذاك أعقد من كل ذلك بكثير، وسنحاول مستقبلاً أن نتلمَّس بعضاً من جوانبه .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

شغل منصب وزير الصحة ووزير التربية والتعليم سابقاً في البحرين. متخصص في كتابة مقالات في شؤون الصحة والتربية والسياسة والثقافة. وترأس في بداية الألفين مجلس أمناء مركز البحرين للدراسات والبحوث. كما أنه عضو لعدد من المنظمات والمؤسسات الفكرية العربية من بينها جائزة الصحافة العربية المكتوبة والمرئية في دبي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"