شفافية نعم . . لكن عربية

04:13 صباحا
قراءة 4 دقائق
فيصل جلول
صدر مؤخراً التقرير الدولي حول الفساد في العالم الذي تعده منظمة الشفافية الدولية، وهي جمعية المانية غير حكومية، تقول إنها تستشير في إعداده خبراء اقتصاد وقانون وعلاقات عامة في البنك الدولي والبنك الإفريقي للتنمية ومصادر أخرى متعددة . التقرير يحمل الرقم عشرين وهو سنوي ما يعني أنه يقفل عقدين من عمر المنظمة التي لا يترتب على تصنيفها أية عقوبات أو مكافآت مباشرة، وإنما هرم معنوي يفيد المستثمرين، ويرسم خريطة تتيح لهم التحرك وفق رؤية واضحة . وتفيد التقارير أيضاً الحكومات الراغبة في تحسين أدائها واستدراج الرساميل والقروض الغربية، وهي في كل الحالات تلقي بثقلها على الدول الفاسدة وتحاربها بأحكام قيمية مطلقة، الأمر الذي يؤدي إلى تهميشها في الأسواق العالمية .
ومنظمة الشفافية واحدة من مجموعة منظمات ظهرت مع انطلاق العولمة عقب انتهاء الحرب الباردة وسيطرة السوق الرأسمالية على كل أنحاء العالم، ولعل الأشهر بينها هي منظمة "مراسلون بلا حدود" التي تعنى بشؤون الصحافة وحرية الإعلام ومنظمات حقوق الإنسان المختلفة، وغيرها من الجمعيات غير الحكومية التي تصدر تقارير حول سلوك البلدان والمجتمعات، وتصنف الدول وفق مقاييس تشرف منفردة على تحديدها .
تطرح تقارير الشفافية الدولية مشكلات عدة، من ضمنها شروط التصنيف والقياس التي تعوزها الشفافية والدقة والموضوعية، بل علة التصنيف، ومثالنا على ذلك الصومال والدنمارك، أي البلد الأخير في التصنيف الذي يطال 175 دولة، والبلد الأول فهما الأغنى والأفقر إلى حد ما في العالم، فكيف يستقيم التصنيف؟ وهل يجوز القياس والمقارنة؟
من جهة أخرى، يمكن النظر إلى البلدين بعيون المنظمة من زاوية أن الأفضل هو المثال الذي يجب أن يحفز الأسوأ لكي يكون على صورته . بعبارة أخرى حتى تكون الصومال بلداً جيداً وشفافاً يجب أن يتشبه بالدنمارك أو فنلندا أو سويسرا أو ألمانيا أو اليابان، أي الدول الغنية التي تسيطر على الأسواق، وبما أن الصومال لن تبلغ يوماً مرتبة الدنمارك، فإنها ستظل في آخر التصنيف أو قد ترتفع عدداً من المراتب، وإن فعلت تكون قد حققت الغرض الأساسي من التقرير، وهو حماية الرساميل وتأمين سلامتها أولاً ولضبط آليات الربح المنظمة وفق قوانين وموازين قوى معروفة في الأسواق العالمية .
وعندما يضبط التصنيف وآلياته، كما أوضحنا للتو، يصبح فهم موقع الأطراف المعنية فيه واضحاً ومجرداً من الأوهام، وهذا أمر في غاية الأهمية . وبالاستناد إليه نقرأ الترتيب العربي للظاهرة، حيث جاءت الإمارات العربية المتحدة في المرتبة الأولى، وهي البلد الأكثر انخراطاً في الأسواق العالمية، والأكثر تكيفاً مع شروطها، ومن بينها الشفافية التامة، وتليها قطر بمرتبة واحدة، وصولاً إلى البحرين في المرتبة ،55 جنباً إلى جنب مع الأردن والمملكة العربية السعودية، وتحتل الكويت وتونس والمغرب مراتب متوسطة 67 و80 و،94 في حين يصل لبنان إلى المرتبة ،136 وسوريا ،159 واليمن إلى جانب ليبيا في المرتبة ،166 في حين يصل العراق إلى المرتبة ،170 والسودان 173 .
ويمكن لبعض الدول العربية الموسومة بالفاسدة أن تخفف من إحباطها نسبياً إذا ما علمت أن الصين بلغت المرتبة ال ،100 وروسيا كما إيران في المرتبة ،136 لكن من غير المعروف إذا كان هذا التصنيف متناقضاً مع قواعد المنظمة التي تقول إن الفساد يعطل التنمية، ويشد الاقتصاد الوطني نحو الأسفل، في حين نعرف أن الصين هي البلد الذي يحقق نسبة النمو الأعلى في العالم، وروسيا تمكنت في عهد فلاديمير بوتين من تحقيق نقلة تنموية حاسمة بالقياس إلى العهد السابق بزعامة بوريس يلتسين .
في سياق آخر، يبدو واضحاً أن الربيع العربي لم يحمل الشفافية والتنمية إلى البلدان التي حل فيها حتى الآن على الأقل، فقد هبطت كلها في تصنيف المنظمة الألمانية ما عدا مصر بعد الثورة، وهذا يعني أن "الثوار" الذين تسلموا البلدان الثائرة لم يكافحوا فساداً كان من أسباب ثورتهم، بل فاقموا الفساد القائم ورفعوه إلى مراتب أعلى . وبالمقارنة مع الإمارات العربية المتحدة التي انتقلت 3 مراتب إلى الأعلى خلال الأعوام الفائتة، نلاحظ أن اليمن هبطت من المرتبة 154 قبل الربيع العربي إلى المرتبة 166 اليوم، أي أنها خسرت 12 نقطة، وليبيا انتقلت من المرتبة 130 إلى المرتبة ،166 أي أنها خسرت 36 نقطة، وسوريا انتقلت في الفترة نفسها من المرتبة 126 إلى المرتبة ،159 أي أنها خسرت 33 نقطة، في حين ارتفعت مصر من المرتبة 111 في عهد حسني مبارك إلى المرتبة 94 في عهد عبدالفتاح السيسي، وربحت 17 نقطة .
تقدم المنظمة حلاً مستحيلاً للفساد وغير قابل للتطبيق، كما لاحظنا في حالتي الصومال والدنمارك، فحتى يصبح الحل ممكناً لا بد من تاريخ واحد، ووسائل واحدة، وحضارة واحدة، وقيم واحدة، وثروة متقاربة، وكل ذلك متعذر وصعب المنال .
يبقى وجوب مكافحة الفساد في ظروف وشروط عربية وهي ممكنة، لأن الإسلام يدينه ويحذر منه والقيم الاجتماعية والأخلاقية لا تبرره، والتقدم التنموي لا يجيزه، فضلاً عن أن العصر لا يوفر له تغطية أخلاقية، ولعل هذا كله يستدعي تشكيل منظمة عربية خاصة بالشفافية ومكافحة الفساد والتشهير بالفاسدين، على أن يكون عملها جزءاً لا يتجزأ من حماية مصالح العالم العربي، طالما أن المنظمة المذكورة أعلاه تسهر على حماية مصالح الغرب ورساميله . شفافية نعم . . لكن عربية .
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"