يناير والمؤامرة

01:43 صباحا
قراءة 4 دقائق
عبدالله السناوي

لا تنشأ ثورة بمؤامرة، ولا تستقيم حقيقة بالادعاء.نسبة «يناير» إلى مؤامرة هي نفي بالتدليس لأسبابها.

في سنواته الأخيرة، لم يكن أحد في مصر، أو خارجها، يعتقد أن بوسع نظام «حسني مبارك» البقاء.
تآكلت شرعيته بانسداد القنوات الاجتماعية، وتفشي الفساد وزواج السلطة بالثروة. كما تآكلت شرعيته بانسداد القنوات السياسية ووصاية الأمن على الحياة العامة.
الفوضى ضربت البنية الداخلية للنظام، وأفضى مشروع التوريث إلى استقطاب كل الغضب. عندما أغلق أي أمل في الإصلاح من الداخل، بعد التزوير الفاحش للانتخابات النيابية خريف 2010، بدأ العد التنازلي الذي لم يطل. لم يكن هناك شك في أن النظام انتهى، والباقي تفاصيل.
نسبة «يناير» إلى مؤامرة هي بذاتها مؤامرة على الذاكرة العامة والمستقبل كله. فلا مستقبل لبلد ينكر تاريخه وتضحياته والأحلام التي حلقت في الميادين. ونفي الإرادة الشعبية، التي ثارت، وإنكار لطلب التغيير والالتحاق بالعصر.
بقدر عمق الحدث التاريخي في بنية مجتمعه يستحيل الموت الإكلينيكي ل«يناير» مهما بالغت الحملات ووصل التشهير مداه. الحقائق الكبرى لا تنسحب من التاريخ. قد يخفت بريقها لكن أثرها يظل كامناً. بأثر تجربة «يناير» تغير المصريون، والعودة إلى الوراء مستحيلة.
لم تكن «يناير» أول ثورة في التاريخ تختطف جوائزها، ويجهض فعلها. ولا كانت أول ثورة يعود الماضي بعدها إلى صدارة المسرح الذي طرد من فوقه.
الثورة الفرنسية تعرضت لتجربة مماثلة قبل أن تعلن انتصارها النهائي لكامل أهدافها. رغم عنفها المفرط، والمشانق التي نُصبت، فقد أجهضت وعاد ملوك البوربون إلى حكم فرنسا. بحسب التعبير التاريخي الشائع فإنهم «لم يتعلموا ولم ينسوا ولم يغفروا».
في طلب الثأر من «يناير» اختلطت الأوراق، فالثورة، أية ثورة، لا تلخصها جماعة بعينها، ولا وجوه بذاتها. قوة الثورات في مدى تعبيرها عن إرادة مجتمعها.
لم تكن الثورة مؤامرة، وإلّا فإنه نفي للإرادة العامة واستخفاف بها وتجهيل بأسباب سقوط نظام «مبارك».
لا يعقل أن يستجيب عشرات الملايين لمؤامرة في الظلام.
لكن بطبيعة الحال فهناك من حاول توظيف الأجواء التي صاحبت الثورة لمقتضى مصالحه. كانت أكثر الترجيحات قبل «يناير» أن مصر مقبلة على حريق قاهرة جديد، كالذي حدث في 26 يناير/كانون الثاني 1952، أو ثورة جياع، أو فوضى عارمة، يعقبها تدخل من مؤسسات القوى، كما توقع رئيس الوزراء الإيطالي الأسبق «رومانو برودي» أثناء زيارة للقاهرة أواخر سنوات «مبارك».
لم يتوقع أحد ثورة مدنية بمظهر حديث تتقدمها الأجيال الجديدة وتستقطب المجتمع وراءها، طلباً للانتقال من نظام إلى آخر. كانت تلك واحدة من معجزات الشعب المصري في التاريخ. في الأيام الأولى من «يناير» أخرجت مصر أفضل ما فيها، وأبهر ذلك العالم الذي وقف مشدوهاً أمام مشاهد ميدان التحرير.
غير أنه سرعان ما بدأت تخرج من جوف المجتمع، الذي جرفت حيويته بسبب سياسات النظام السابق، أسوأ ما فيه من فرز على الهوية الدينية.
لم يكن ذلك مسؤولية الثورة، فقد أفرج عن متهمين بالإرهاب، وسمح لآخرين تطاردهم التهمة نفسها بالعودة، من دون تحسب.
بتعجل غير مفهوم جرى الاستفتاء على بعض مواد دستور 1971 في 19 مارس/آذار، من دون أي مقتضى.
كان التعجل بذاته داعياً إلى تفكيك بنية الثورة الوليدة، وارتفاع منسوب التسمم العام بالفرز الطائفي الذي شاب الاستفتاء، رغم أن ما استفتى عليه لم يكن له صلة بالأديان. ثم جرت انتخابات نيابية قبل وضع دستور جديد، وبعد التلاعب بجماعات الشباب، التي انقسمت على نفسها بفداحة.
أسس ذلك لصدامات وشكوك وريب مبكرة، أفضت إلى الاختطاف الأول للثورة من جماعة كانت آخر من دخل ميدان التحرير، وأول من غادره. ثم جرى الاختطاف الثاني للثورة من جماعات الماضي، بعد أن أخفقت الجماعة في الحكم، واستنفرت غضب مجتمعها.
لم تكن لثورة «يناير» قيادة معترف بها ومؤهلة، ومن تلك الثغرة تاهت الخطى. ولا كانت هناك مبادئ تحكم الحركة العامة، ومن فقر الأفكار اختطفت الثورة.
هناك فارق بين الأهداف والمبادئ.
الأولى، شعارات عامة تلهم لكنها لا تقود.. والثانية، رؤى فكرية تؤسس لبرامج وخطط وأولويات.
في ضباب الأفكار أمكن لكل اللاعبين أن يرددوا العبارات نفسها عن «العيش والحرية والعدالة الاجتماعية»، من دون أن يكونوا متفقين على أي شيء يُعتد به في صناعة المستقبل.
ولا يعني اهتمام العالم بما كان يحدث في مصر مؤامرة، وإن كان هناك من تآمر لإجهاض الثورة.
لم تكن مصادفة أن يظل مجلس الأمن القومي الأمريكي في حالة انعقاد دائم في الأيام الأولى من «يناير/كانون الثاني».
ولا كانت مصادفة أن يتدفق للقاهرة مراسلون صحفيون وباحثون ودبلوماسيون ورجال استخبارات من كافة أرجاء العالم، فمصر دولة مهمة لا يمكن تجاهلها، ولا تقليل أهمية ما يحدث فيها على معادلات المصالح والنفوذ في الإقليم كله. ولا كانت مصادفة أخرى الضغوط التي مورست على «المجلس العسكري» لإفساح المجال أمام جماعة الإخوان، الأكثر تنظيماً، للإمساك بمقاليد الأمور.
هذه مصالح ورؤى وتصورات لإدارة الملفات الإقليمية رهاناً على «الإسلام المعتدل» لوقف تقدم «الجماعات المتشددة»، وهو رهان ثبت فشله بالتجربة العملية.
بنظرية «المؤامرة» فإن الولايات المتحدة والمجلس العسكري وجماعة الإخوان تقاسموا الأدوار لإجهاض الثورة.
باليقين، أولاً، هناك من تآمر، لكن الثورة ليست مؤامرة. وباليقين، ثانياً، فإن بعض الذين يتحدثون اليوم عن مؤامرة هم بعض الضالعين فيها لإفقاد المصريين ثقتهم في أنفسهم، وفي قدرتهم على التغيير.
وباليقين، ثالثاً، فإن الإنجاز الوحيد، المادي والملموس، للثورة بكل موجاتها هو «الدستور».
بقوانين السياسة فإن الثورات ليست خالدة. وبنفس القوانين فإنها لا تغادر المسارح السياسية قبل أن تستقر أهدافها في قواعد، أو دساتير.هكذا يجري دائماً الانتقال من الشرعية الثورية إلى الشرعية الدستورية.
من اللافت أن الذين يطالبون بتعديل الدستور، ولا يحترمون أحكامه، هم أنفسهم الذين يعتبرون يناير «مؤامرة».
وذلك موضوع صراع على المستقبل، فعندما يتوقف الانتقال من شرعية ثورية إلى شرعية دستورية، فإن أحداً لا يستطيع أن يعول على استقرار، أو أمن، أو تجاوز للأزمات المتفاقمة، أو تطلع إلى دولة مدنية ديمقراطية حديثة.
بتلخيص آخر، فإن شرعية «يناير/كانون الثاني» هي نفسها الشرعية الدستورية، والكلمة الفصل في نهاية المطاف.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"