«سبع صنائع والحظ ضائع»

04:48 صباحا
قراءة دقيقتين

د. حسن مدن

لست متأكداً مما إذا كانت العبارة أعلاه مثلاً شعبياً أم قولاً مأثوراً في الأصل، ولكنها تعبير رائج في بلداننا العربية، ربما بتحويرات طفيفة في الكلمات لكن بمضمون واحد.

كتاب مهتم بتأويل الأقوال الشائعة وتقصي جذورها يُذكرنا مؤلفه جوليان باجيني بعبارة منسوبة إلى الشاعر الإغريقي أرخيلوكس تقول: «الثعلب يعرف أشياء كثيرة، لكن القنفذ يعرف شيئاً كبيراً واحداً».

على هذا يترتب سؤال مهم: أيهما، والحال كذلك، أكثر فطنة: الثعلب أم القنفذ؟، من يعرف أشياء كثيرة، أو الذي يعرف شيئاً واحداً كبيراً؟ يمكن تسوية الأمر بشيء من التوفيق بالقول إن لدى كلا الحيوانين نقاط قوة ونقاط ضعف، وإلى هنا يمكن أن ينتهي السجال إن أردنا إنهاءه، فلا ضرورة للمفاضلة: لدى الثعلب سبع حيل؛ لأنه يفتقد الشيء الكبير الذي لدى القنفذ، ولدى القنفذ شيء واحد كبير؛ لأنه حُرم من الحيل المتعددة للثعلب، وبالتالي فلا غالب ولا مغلوب.

لكن مؤلف الكتاب المخصص لتقصي الأقوال لا يريد الوقوف عند هذا، إنما يريد منح الأمور أبعاداً أوسع وأرحب، من خلال تطبيقها على الواقع العياني المعاش في عالم اليوم.

المشكلة برأيه تكمن في الأعداد الكبيرة من القنافذ الهزيلة التي تنتشر اليوم، وتتقن شيئاً واحداً فحسب. ذلك أن الميل المتزايد نحو التخصص المحدود في جزئية بعينها من علم واسع، قد يفقد صاحبه ما يمكن أن ندعوه بالرؤية البانورامية التي تُمكنه من رؤية الروابط بين الظواهر.

يمكن دراسة جزئية من الجزئيات أو ظاهرة من الظواهر منفردة، وهذا من مستلزمات الدراسة المتأنية على كل حال، لكن تجريد هذه الجزئية أو الظاهرة مما حولها أو مما هي على صلة به سيذهب بعقل الإنسان إلى المحدودية والانغلاق على عوالم صغيرة ضيقة منفصلة عن المحيط الأوسع.

ويبدو هذا مدهشاً في عالمٍ يسعى فيه العقل البشري لتجاوز إحاطته بأمور الكوكب الذي عليه نحيا، باقتحام الفضاء الأرحب، وهو اقتحام لا يتردد البشر في وصفه ب «الغزو»، مذكرين إيانا بالحروب والغزوات التي شنّها، وعلى مر التاريخ، الكبار والأقوياء على من هم دونهم حجماً وقوة.

كيف للعقل الذي ضاقت به الأرض على ما وسعت، أن يدفع باتجاه عقول محبوسة في أقفاص التخصص الضيق؟ في حال كهذه، لن يصبح صحيحاً أن صاحب «الصنائع السبع» هو بحظ ضائع. إنه أكثر حظاً من «القنفذ» المعرض للضياع؛ لأنه لا يعرف سوى شيء واحد.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب من البحرين من مواليد 1956 عمل في دائرة الثقافية بالشارقة، وهيئة البحرين للثقافة والتراث الوطني. وشغل منصب مدير تحرير عدد من الدوريات الثقافية بينها "الرافد" و"البحرين الثقافية". وأصدر عدة مؤلفات منها: "ترميم الذاكرة" و"خارج السرب" و"الكتابة بحبر أسود".

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"