«غربنة» مستحسنة

02:46 صباحا
قراءة 3 دقائق
أحمد مصطفى

مع كل التقدير للاستبشار بالاحتجاجات في لبنان والعراق بأنها خطوة على طريق تجاوز الطائفية السياسية، ومواجهة التدخل الخارجي في البلدين، خاصة من قبل إيران، إلا أن الاحتجاجات بدأت على أساس مختلف، ربما لا يقل أهمية عن مواجهة الطائفية والتدخلات الإيرانية.
بدأت الاحتجاجات في العراق، بعد تعرض الأمن لخريجي الجامعات الذين اعتصموا أمام مباني الحكومة في المنطقة الخضراء بالعاصمة بغداد، مطالبين بتوفير فرص عمل. واندلعت في لبنان على إثر فرض رسوم على المكالمات الصوتية عبر موقع التواصل «واتس آب». واتسع نطاق الاحتجاجات فيما بعد، ليشمل مطالب أخرى كلها بالأساس تتعلق بحياة الناس اليومية.
وتتشابه الاحتجاجات في البلدين فيما يتعلق بمحاربة الفساد، مع أن الفساد موجود في البلدين على نطاق واسع وبشكل فج أحياناً منذ سنين، فلماذا الآن؟ ببساطة لأن الناس لم تعد قادرة على تحمل تكاليف المعيشة في ظل ارتفاع معدلات البطالة، وتدهور الخدمات الأساسية من بني تحتية وصحة وتعليم.
ورغم إيجابية أن التظاهرات عابرة للطوائف والاعتبارات القبلية والعشائرية والعائلية وحتى المناطقية، وأيضاً زيادة الوعي بخطر التدخلات الخارجية وتأثيراتها السلبية، إلا أن السبب الأول لاندلاع الاحتجاجات، لا يزال دينامو استمرارها. وحتى محاولات «تسييس» الاحتجاجات على أسس أيديولوجية أو استناداً إلى التقسيمات التقليدية في المجتمعين، لم تفلح حتى الآن في «تخفيف» الجذر الأصلي لها.
لطالما تفاخرنا بأن الناس في العالم العربي أكثر اهتماماً بالسياسة والشؤون العامة من البشر في المجتمعات الغربية. وصحيح أن الناس في دول الديمقراطيات التقليدية الراسخة يصوتون في الأغلب على أسس تتعلق بحياتهم اليومية.
ومع أن «تقليد الغرب» قد لا يكون محموداً في بعض الأمور إلا أن ما يجري في لبنان والعراق هو «غربنة مستحسنة» إذا جاز التعبير. فاللبنانيون والعراقيون يعبرون الآن عن رأيهم على ذات الأسس التي ينتخب على أساسها البريطانيون والأمريكيون (مثلاً) حكوماتهم: من سيدعم الخدمة الصحية الحكومية، ومن سيزيد قوات الشرطة والأمن، ومن سيعتمد من الميزانية الحكومية أكثر لإصلاح الطرق وإمدادات الكهرباء والمياه... إلخ.
ومع أن كثيراً من «نشطاء» مواقع التواصل يتغنون بالتجربة التونسية باعتبارها مفجرة «الربيع العربي» ونموذج للانتخابات على طريقة الديمقراطية الغربية، إلا أن الناس في تونس ما زالوا إلى حد كبير يصوتون على أسس حزبية أو فئوية أو أيديولوجية (خاصة أتباع ما يسمى الإسلام السياسي). ومع أن أوضاع التونسيين ليست أفضل كثيراً اقتصادياً ومعيشياً، وبدا تصويتهم في الانتخابات الرئاسية الأخيرة احتجاجياً على النخبة السياسية في البلاد، إلا أن التصويت في الانتخابات البرلمانية كان إلى حد كبير على أساس الخطوط التقليدية للحياة العامة التونسية.
ذلك هو الفارق الجوهري الذي يجعل من المنطقي التفاؤل بما يجري في العراق ولبنان، وأنهما فعلاً يمكن أن يكونا نموذجاً لتغيير سلمي غير مسبوق لا نبالغ لو توقعنا أن يتجاوز المنطقة العربية.
فالاحتجاجات في البلدين تعبير عن عدم ثقة الجماهير بالديمقراطية الشكلية التي تكرس المحاصصة الطائفية والعرقية والقبلية والعشائرية. وفي الوقت ذاته، يزيد الوعي بأهمية توجيه موارد البلاد، لنفع أهلها بوقف الهدر والفساد.
ربما لعبت وسائل التواصل دوراً في احتجاجات العراق ولبنان، كما كانت الحال في تونس وغيرها مطلع العقد الحالي، لكن تلك الوسائل وغيرها كانت من قبل وسيلة انفتاح لكثير من اللبنانيين والعراقيين على العالم الأوسع دون قيود الأيديولوجيا وغيرها.
كما أن وجود جاليات عراقية ولبنانية كبيرة في مهاجر بعضها من الديمقراطيات الغربية وبعضها من البلدان الثرية، لكنها تقدر قيمة الإنسان، المواطن والمقيم، بث هؤلاء المغتربون وأهلهم في الداخل روحاً جديدة تقاوم كل الفساد والتردي السياسي بطائفيته وعشائريته السلبية.
أهم ما يميز هذه «الغربنة المستحسنة» في احتجاجات البلدين هو أنها ربما تكون بالفعل تطويراً يسبق أصحاب التجارب الراسخة الذين يعتبرونها الآن «مستنفدة» وتحتاج إلى تغيير وتطوير.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

يشتغل في الإعلام منذ ثلاثة عقود، وعمل في الصحافة المطبوعة والإذاعة والتلفزيون والصحافة الرقمية في عدد من المؤسسات الإعلامية منها البي بي سي وتلفزيون دبي وسكاي نيوز وصحيفة الخيلج. وساهم بانتظام بمقالات وتحليلات للعديد من المنشورات باللغتين العربية والإنجليزية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"