لغز محاولة تهريب البشير

03:33 صباحا
قراءة دقيقتين
فيصل عابدون

من الأمور البديهية في العمل السياسي في الدول التي تمر بمنعطفات حادة، وتتفاقم فيها الأزمات ألا تحاول الجهات الحكومية إسدال جدار من الغموض على القضايا المطروحة على الساحة. لأن مثل هذا النوع من التعاطي وفي وسط أجواء محتدمة وساخنة لا ينجح إلا في الإضرار بالموثوقية الضرورية لبناء الثقة. كما أنه من جانب آخر يفتح الباب أمام التكهنات والأسئلة الحائرة.
وما حدث في السودان خلال الأسبوع الماضي يقدم مثالاً حياً لهذا النوع من الإصرار على زيادة تعقيد أوضاع هي في الأصل معقدة بما يكفي. فعندما نقلت مصادر إعلامية عن مسؤولين في الخرطوم إحباط الشرطة محاولة لتهريب الرئيس المخلوع عمر البشير من السجن المركزي في كوبر. وفي اليوم التالي أصدرت قيادة الشرطة بياناً نفت فيه هذه الأنباء، وقالت إنها لم ترصد أية محاولة من هذا النوع ، وأن القوات المكلفة بحراسة السجن تؤدي واجبها بكفاءة واحترافية ويقظة، وطالبت أجهزة الإعلام بتوخي الدقة في نشر الأنباء. لكنها بعد يوم واحد عادت لتؤكد وقوع المحاولة وإحباطها من قبل قوات الشرطة.
ويقول التقرير الأول الذي نشرته أجهزة الإعلام ثم قامت الشرطة بنفيه قبل أن تنفي النفي الصادر عنها، أن عملية التهريب الفاشلة قام بها أكثر من 100 من المسلحين الموالين للرئيس المخلوع وأنهم حاولوا اقتحام السجن المركزي لكن القوات الأمنية أفشلت المحاولة.
إن محاولة بهذا المستوى تستهدف السجن الرئيسي شديد الحراسة ويقوم بتنفيذها عشرات المسلحين لا يمكن أن تمر من دون أن يلاحظها سكان المنطقة ويتابعوا وقائعها. فالمعروف أن السجن الذي أنشئ إبان الحقبة الاستعمارية خارج المنطقة السكنية أصبح يقع مع مرور السنوات في قلب المدينة ويفصله طريق صغير عن منطقة كوبر المأهولة بالسكان.
وبالاستناد إلى ذلك، فإن هذا التناقض في تصريحات مسؤولي الشرطة يصبح مثيراً للبلبلة بلا شك. وهو يدفع إلى استنتاجات تعزز الأحاسيس الشعبية بعدم الاستقرار، وإلى أسئلة تذهب وراء دوافع خفية ومناقشة احتمالات وجود تعدد بمراكز اتخاذ القرار في الجهاز الحكومي. وهي كلها نتائج سلبية تفرزها تصريحات متناقضة ولا تخدم أي غرض إيجابي لأجهزة الشرطة بل تشكك في كفاءتها.
الغموض ليس سياسة ذكية في أوقات الأزمات، وعندما يتصل هذا الغموض بقضية مثيرة للجدل وشديدة الحساسية، فإنه يصبح نوعاً من الألعاب النارية شديدة الخطر على جهود الاستقرار الذي تحتاج إليه الأوضاع المأزومة. فالرئيس السوداني المخلوع لا يمثل قضية داخلية ، فالرجل مطلوب للمحكمة الجنائية الدولية في لاهاي لمحاكمته على جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية ارتكبت ضد أهالي إقليم دارفور. وقد طالب قادة سياسيون وتيارات أخرى بتسليمه إلى المحكمة الدولية وعدم محاكمته داخل القطر، وطي هذه الصفحة بشكل نهائي حتى لا تتمدد ظلالها الكئيبة على الواقع الحالي الذي يواجه صعوبات كبرى في التوافق الوطني، ويعاني أصلاً انعدام الثقة بين الأطراف التي تسعى لبناء واقع جديد يسوده السلام والاستقرار والحرية على أنقاض الدولة الفاشلة التي تركها المخلوع خلفه.
وإذا كانت السلطة الانتقالية تعتبر أن مهمة تسليمه تقع على عاتق حكومة منتخبة، فإن من واجبها ضبط التصريحات المتفلتة المرتبطة بهذا الملف.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"