الإصلاحات قَدرُ مجتمعاتنا

04:44 صباحا
قراءة 4 دقائق
عبد الإله بلقزيز

أسوأ ما يمكن أن ينتظر مجتمعاً ودولة عجزُهما عن إدارة مشكلاتهما الداخلية، وتوفير الأسباب لحلها، بما يضمن الأمن الاجتماعي والاستقرار السياسي، وخاصة في الأحوال التي تتفاقم فيها المشكلات تلك، وتستفحل تأثيراتها السلبية، فتنتهي إلى الصيرورة أزمات متفجرة. ذلك، بالذات، ما شهدنا على فصول منه في الأعوام 2011-2019 في غير بلد من البلاد العربية، ولقد تكون لمثل هذه الأحوال من التأزم الانفجاري أسباب وعوامل عدة مترابطة أو متضافرة؛ بحيث يتعسَّر تمیيز الأشد تأثيراً منها عن غيره، أو إيلاء الانتباه إلى بعضها دون آخر، غير أن الذي لا يمكن أن يتجاهله التحليل الموضوعي الدقيق للأزمات أن هذه تنشدُّ، جميعها، إلى العامل السياسي، وتتصل به أشد الاتصال. وعلى ذلك، كلّما أمكن إحراز التقدم في حل المسألة السياسية في أي بلد، أمكن معه - بالتبعة - الخطْوُ نحو استيعاب المشكلات المجتمعية من أي طبيعة كانت؛ إذ المسألة السياسية (هي) أم المسائل في أي اجتماع سياسي، والمقاربة السياسية لأي معضلة اجتماعية هي أفعل مقاربة وأقدرها على وضع المعضلة تلك على طريق المعالجة. وما أكثر المشكلات التي أخطأت نخب عدة في توفير أجوبة ناجعة عنها، وتفادي ارتداداتها على المجتمع والدولة، فقط لأنها تحاشت تناولها سياسياً فتعاملت معها وكأنها مشكلات قطاعية جزئية (اقتصادية، اجتماعية، تعليمية، أمنية...) تقبل المعالجة الموضعية.
تهون مشكلات الدولة والمجتمع حينما لا يكون النظام السياسي القائم مصاباً بعِيٍّ أو عیب؛ حين يتمتع بقوة الشرعية المجتمعية، وتحصل نخبه الحاكمة على القدر الكافي من المقبولية العامة من لدن المجتمع والرأي العام. حين يكون نظاماً قائماً على مبدأ المشاركة السياسية، وتجد فيه قوى المجتمع، كافة، إطاراً للتمثيل وللتعبير عن نفسها، وللمشاركة في صنع القرار والمصير، يصبح أكثر قدرة على جبه أي من المشكلات والأزمات، مهما تكن طبيعتها ودرجة حدتها؛ إذ يسعه، حينها، أن يسخر موارده البشرية جميعها ويُنجز أعلى مستويات التعبئة الوطنية والتضامن؛ لمواجهة ما يتعرض له من تحدیات، من دون أن يخشى على نفسه من تبعاتها المتوقعة أو المفاجئة. حينها، وحينها فقط، يمكن المجتمع والدولةَ عزل المشكلات المجتمعية عن النصاب السياسي والتعامل معها، تالياً، بوصفها مشكلات غیر سياسية أو مشكلات تقبل معالجات موضوعية. والسبب، هنا، يكمن في أن المجتمع والدولة يكونان، في هذه الحال، في وضع مريح سياسياً أو، قُل، في وضع من أجاب عن المسألة السياسية في عمرانه، وبات قادراً على مواجهة غيرها من المشكلات من دون أن تتفجر فيه هذه سياسياً. وما أغنانا عن القول إن الدول الوطنية الحديثة - في بلدان الغرب خاصة - هي من نوع تلك الدول التي تحررت من عبء مشكلتها السياسية على أوضاعها الاجتماعية؛ لنجاحها في بناء نظام سياسي مفتوح على المجتمع وقوي بشرعيته.
تختلف الحال في المجتمعات والدول التي لم تهتد بعد إلى بناء نظام سیاسي حديث فيها، أو التي تشهد على أزمة في تكوين النظام السياسي واشتغاله فيها؛ فهذه تجد نفسها في مواجهة مشكلاتها وأزماتها - مقيدة بنظام سياسي لا يطاوعها أو يُسعفها، وبالتالي، تلفي نفسها مدفوعة إلى الجواب عن مشكلتها السياسية أثناء - وفي خضم - الجواب عن مشكلاتها الاجتماعية. وأعوصُ حالة، في الإطار هذا، هي حالة البلدان التي تعاني انسداداً حاداً في نظامها السياسي، وانغلاقاً شديداً في مجالها السياسي. إن هذا النوع من المجتمعات والدول لا يخفق، فقط، في مقاربة مشكلاته وأزماته؛ بل أكثر من ذلك - وأخطر من ذلك - تميل مشكلاته الاجتماعية إلى التعبير عن نفسها سياسياً، وخاصةً حينما تكون درجة التفارق بين المجتمع والنخب المغلقة على نفسها قد بلغت حدود التأزم. وهكذا تكفي مشكلة صغيرة في البلاد (غذائية، أمنية، تعليمية...) أن تُضرم نار النزاعات والصراعات، وقد تستجر أحداث عنف وصدامات. وغني عن البيان أن مثل هذا النموذج من النظام السياسي المغلق هو السائد في قسم كبير من البلاد العربية، وهو المسؤول عما لا حصر له من مشكلاتها وأزماتها، وهو الذي يغذي النزاعات والعنف في يومياتها الاجتماعية والسياسية، ويؤسس لكل ألوان عدم الاستقرار فيها.
ما من شك، والحالة هذه، في أن إصلاح النظام السياسي، وتصويب ما فيه من أعطاب شرط وجوب للتهيؤ الكامل؛ لمواجهة أي مشكلة تعرض لمجتمعاتنا ودولنا. لن تخسر النخب الحاكمة أي شيء من إصلاحها النظام السياسي سوى عجزها عن أداء واجباتها تجاه الشعب والوطن. ستقوی بذلك أكثر؛ إذ تغتني شرعيتها، وستزود المجتمع والدولة بأدوات أنجع لمقاومة أزماتها، ولتحقيق الأمن والاستقرار. من بادر منها إلى إجراء إصلاحات، اختار السبيل الأقوم، وعزز مصداقيته أكثر؛ ومن عاند أصابه من الاحتجاجات الشعبية ما أصابه من سوء. والأمل (هو) في أن تتغلب المصلحة الوطنية والعقلانية السياسية فيحسم المتردد تردده، ويسعى في طلب إصلاحات حقيقية، وإن متدرجة، تمتع المجتمع والدولة بمؤسسات وبمنظومة قوانين سياسية حديثة يقتدر بها على مواجهة التحديات الداخلية والخارجية، وعلی صنع مصير مشرف.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"