وحدة العرق البشري والقيم الكونية

04:16 صباحا
قراءة 3 دقائق
محمد خليفة

في سابقة لم تشهدها العلاقات الراسخة بين بريطانيا والولايات المتحدة، أعلن رئيس مجلس العموم البريطاني، جون بيركاو، أنه لن يسمح للرئيس الأمريكي دونالد ترامب بإلقاء خطاب في مجلس العموم، خلال الزيارة التي قام بها إلى بريطانيا، يوم الخميس الماضي.
ويبدو موقف رئيس مجلس العموم غريباً تماماً على بريطانيا التي ظلت منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، الساعد الأيمن للولايات المتحدة، وشريكتها في حروبها الاستعمارية في مختلف مناطق العالم، وكانت سياسة الدولتين متشابهة إلى حد التطابق.
ولا خلاف أن السبب الرئيسي الكامن وراء سقوط العولمة الأمريكية، هو أيضاً السبب عينه في تراجع عولمة الغرب، وأعني بذلك المادية التي بقيت أساس المشترك للعولمة الأمريكية والعولمة الأوروبية معاً. ويجسد هذا ما قاله رئيس مجلس العموم البريطاني جون بيركو: « قبل فرض الحظر على المهاجرين كنت أعارض بشدة خطاب الرئيس ترامب في قاعة وستمنستر، وبعد فرض الحظر على المهاجرين أصبحت أعارض خطابه بقوة أكبر». وأضاف: «أعتقد أن معارضتنا للعنصرية والتمييز على أساس الجنس، وتأييدنا المساواة أمام القانون واستقلال القضاء، لها اعتبارات بالغة الأهمية».
إن ترامب، من وجهة نظر رئيس مجلس العموم والعديد ممن يمثلون قيم الحضارة الغربية الأصلية، يمثل تياراً يمينياً انعزالياً، مسكوناً بهواجس العرقية القديمة، وغير قادر على تمثل فكرة وحدة العرق البشري، ويحاول الخروج على مقتضيات القانون والدستور، ويحمل مفاهيم وأفكاراً إيديولوجية معادية لكل ما تروجه أمريكا والغرب، بشكل عام، من ديمقراطية، وليبيرالية، ونيوليبرالية؛ أي أن الغرب تجاوزها لمصلحة القرية الكونية الواحدة التي تقبل الجميع.
أما اليوم فقد أصبح رأس الولايات المتحدة، من حيث الواقع والفعل، والنظام الذي يدعمه، غائباً عن المسرح الدولي، فهي لا تتفاعل والأحداث الجارية، فهي تعيش حالة لا مبالاة لا تليق بدولة تقود العالم، ولها مصالح استراتيجية في كل مكان فيه. لقد قسم ترامب الشعب الأمريكي إلى عوالم متباينة، ومتنابذة، عندما قام بمنع دخول المسلمين إلى الولايات المتحدة، وأيضاً الأمريكيين اللاتينيين، عبر التفكير في إقامة جدار على طول الحدود مع المكسيك؛ من دون أن يأخذ في الاعتبار أنه، عبر أطوار تاريخ البشرية، لم يعرف كوكبنا هذا السلوك، منذ أن تغلغلت هذه الحضارة في أقطاره كافة، وتسللت إلى كل زاوية من زواياه؛ لتشع فيها إشراقة الحضارة الغربية ذات الوجه المتسامح العقلاني الذي يُعلي من حقوق الإنسان من دون النظر إلى دينه، أو عرقه، أو جنسه، أو لونه.
زد على ذلك، أن علوم أوروبا، وفنونها، وفلسفتها، وإيديولوجياتها، وحتى عاداتها وتقاليدها، قد غمرت بظلالها معظم شعوب الأرض، وأممها، فضلاً عن أن علمانيتها زلزلت أركان الإيمان في صدور تلامذتها، وحاولت طمس تراثهم، واقتلاع جذورهم من تربة تاريخها، وتهجين أصالتهم، وتدجين تطلعاتهم، وطموحاتهم الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، بغية ترويضهم بقيود التبعية.
ولا ريب في أن أخطر ما قذفت به الحضارة الأوروبية تمثل، ويتمثل في مذاهبها الفلسفية وأيديولوجيتها السياسية.
ولكن ترامب يقود بلاده، وربما الغرب كله، نحو المجهول، فالتخلي عن القيم الإنسانية الرئيسية التي يحملها الغربيون، سيجعل الشعوب الأخرى تنظر إليهم بطريقة مختلفة، ما سيزيد الشرخ والخلاف في العالم. وقد ينتهي الأمر بوقوع حرب شاملة قد تقضي على هذه الحضارة المعاصرة. وعندما يتنبه أقرب الحلفاء، وهي بريطانيا، لخطورة ما يطرحه ترامب، ومن خلفه التيار اليميني المتطرف في أوروبا وأمريكا، فهذا دليل على الخوف الكامن من تلك الأفعال والتصرفات.
إن موقف رئيس مجلس العموم من الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، يطرح سؤالاً جديّاً عن مستقبل العلاقة بين بريطانيا والولايات المتحدة، خصوصاً، وبين الولايات المتحدة وحلفائها الأوربيين عموماً، فهل ستستمر هذه العلاقة كما كانت؛ أم أن تغييراً كبيراً سيطرأ عليها؟
من دون شك فإن العلاقة بين الدول تبنى على المصالح، ورغم الخصوصية التي تطبع العلاقة بين بريطانيا والولايات المتحدة، حيث إن هذه الأخيرة هي بمثابة ابنة للأولى، فبريطانيا هي التي أسست المشروع الاستعماري الاستيطاني في أمريكا الشمالية. لكن هذه العلاقة الوطيدة قد لا تبقى هكذا. وخيارات الولايات المتحدة لم تعد مقبولة بالنسبة لبريطانيا التي تشهد تحولات كبيرة اليوم بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي، وهي تريد أن تسلك طريقاً جديداً في سياستها الخارجية لا تكون فيه مرتهنة للقرار الأمريكي، بل تريد أن تشكل سياسة تتماشى مع مصالحها الوطنية، فهي مثلاً: ليست مضطرة لمعاداة العالم الإسلامي والصين، كما أنها ليست مضطرة لتبني نزعات عنصرية تسيء إليها كدولة ذات أعراق متعددة، ولذلك فإن العلاقة بين الدولتين ربما تتجه نحو الافتراق، بعد انهيار القطبية الثنائية، بعد ضعف الولايات المتحدة عن قيادة العالم وتوجيهه في هذه المرحلة من تاريخ البشرية.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي وكاتب إماراتي، يشغل منصب المستشار الإعلامي لنائب رئيس مجلس الوزراء في الإمارات. نشر عدداً من المؤلفات في القصة والرواية والتاريخ. وكان عضو اللجنة الدائمة للإعلام العربي في جامعة الدول العربية، وعضو المجموعة العربية والشرق أوسطية لعلوم الفضاء في الولايات المتحدة الأمريكية.

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"