استراتيجية الصراع المحدود

03:53 صباحا
قراءة 4 دقائق
فيصل جلول
لم يعبأ رجب طيب أردوغان بالتناقض الماثل في قرار حكومته، بين منع الحملات الانتخابية خارج الحدود، والإصرار على إرسال مبعوثيه الرسميين للحديث في مهرجانات علنية في أوروبا، لتأييد تعديلات دستورية سيطرحها حزب العدالة والتنمية على استفتاء شعبي يوم 16 نيسان (إبريل) المقبل.
هذا التناقض يعكس استخفافاً من طرف السلطات التركية بالدول الأوروبية التي تضم جاليات تركية، وذلك باتجاهين، الأول هو حمل الدول المعنية على القبول بازدواجية المعايير من جهة، وإجبارها من جهة أخرى، على القبول بمهرجانات تركيّة على أراضيها بحجة أن المتحدثين فيها هم وزراء لا يمثّلون حزب العدالة والتنمية.
ويغطي الاستخفاف تصميماً مسبقاً، على استدراج هولندا، ومن ثم ألمانيا وسويسرا والدنمارك، لأزمة مفتوحة تنقل الاستفتاء التركي، من التمحور الداخلي والنقاش حول جوهره وتفاصيله، إلى قضية خلاف بين تركيا التي «تتعرّض للإهانة من جمهورية موز» أو «بقايا نازية وفاشسية» على حد تعبير أردوغان. وهذا من شأنه أن يستنفر «العصبية القومية» التركية، ما يؤدي بالنتيجة إلى الفوز باستفتاء التعديلات بنسبة أصوات مرتفعة، ومن ثم يعود أردوغان إلى التصالح مع الدول التي استفزّها، والتي ما زال يستفزّها عن سابق تصور وتصميم، كما هي الحال اليوم في تصريحاته الموجّهة لرئيس الوزراء الهولندي والتي قال فيها رداً على دعوة الأخير للمصالحة والتفاهم، قال أردوغان «.. هذا لن يتم فأنت لم تدفع الثمن بعد».
الواضح أن مثل هذه التصريحات لم توجّه من قبل لرئيس أوروبي. والراجح أيضاً أن أردوغان يريد من خلالها السير على خطى الإيرانيين، الذين احتجزوا زوارق أمريكية دخلت إلى مياههم الإقليمية، ونشروا صور البحارة المحتجزين بطريقة مهينة. واليوم يعتمد أردوغان الوسيلة نفسها من أجل استدراج الأوروبيين إلى خطوات تصعيدية أكبر، للقول لمواطنيه إن هؤلاء الذين رفضوا عضوية تركيا في الاتحاد الأوروبي، يرفضون اليوم دستورها المعدّل.
في هذه الأثناء يمكن القول إن الرئيس التركي حقّق هدفه الانتخابي من الأزمة مع هولندا، فشعبه يرى بأم العين أن تركيا تقف بوجه أوروبا التي رفضت عضويتها، وأنها ستكون قوية أكثر في ظل رئاسة أردوغان بعد التعديلات الدستورية.
ما من شك في أن جزءاً من الممانعة الأوروبية للدعاية الأردوغانية يكمن في التعديلات الدستورية موضوع الاستفتاء، والتي تنص على نقل النظام التركي من نظام برلماني إلى نظام رئاسي على الطريقة الأمريكية، ولكن مع ضوابط أقل، أي مع خطر بناء سلطة فردية استبدادية مسيئة للأتراك ولجيرانهم، ولعل التعديلات نفسها تحتاج إلى نظرة عابرة.
تنطوي التعديلات الجديدة على إلغاء منصب رئيس الوزراء، على أن يعيّن رئيس الجمهورية الوزراء ويقيلهم، ويعلن حال الطوارئ، ويحكم بموجب قرارات رئاسية، ويعيّن حوالي نصف أعضاء مجلس القضاء الأعلى، وينتخب الرئيس لولاية قابلة للتجديد مرة واحدة، وإن تم لأردغان ذلك، فسيتمكن من البقاء في الحكم حتى العام 2029 ، وهو الذي بدأت ولايته في رئاسة الحكومة من العام 2003 حتى العام 2014 وكان من قبل رئيساً لبلدية إسطنبول.
الملاحظ أن هذه التعديلات تأتي في ظل حملة تطهير واسعة يديرها الرئيس التركي منذ الانقلاب الفاشل، فقد فصل حتى الآن 100 ألف موظف من مناصبهم، ووضع 43 ألف تركي قيد الاعتقال، من بينهم صلاح الدين دمرطاش رئيس الحزب الكردي الشرعي في تركيا، وتضم السجون التركية مئات الصحفيين، وتم حتى الآن إلغاء تراخيص 150 صحيفة وامتيازاً صحفياً، فإذا ما أضفنا إلى ذلك كله التطهير الذي تم في السلطة القضائية وفي صفوف الجيش، نخلص إلى نتيجة مضمونها أن أردوغان تمكن من تطويع السلطة في بلاده ومن ثم حصرها في قبضة حزبه، ويحتاج حتى تصبح هذه الحالة دائمة إلى المصادقة عليها دستورياً أي عبر التعديلات الدستورية المقترحة.
يفصح ما سبق عن صورة حكم لا يروق للأوروبيين الذي باتوا يخافون من جارتهم المسلمة التي تضم 100 مليون نسمة، ومن مجتمع شاب وإيديولوجية هجومية وموقع استراتيجي من الدرجة الأولى، وعمق تركي تاريخي يمتد إلى أقاصي آسيا الوسطى، وعلاقات متنوعة مع روسيا والولايات المتحدة والصين، وجيش قوي هو الثاني في الحلف الأطلسي بعد الولايات المتحدة، فما بالك إذا ما أصبحت السلطة في هذا البلد مركزية وفي قبضة زعيم كاريزمي لم يتردد في ابتزاز القارة العجوز وتهديدها بفيضان من المهاجرين على حدودها؟
نعم تركيا القومية بزعيمها «الملهم» تقلق الأوروبيين، وتزوّدهم اليوم بعناصر خوف إضافية عبر خطاب رجب طيب أردوغان الهجومي على هولندا والذي ينطوي على تهديد هو الأول من نوعه منذ زمن طويل في العلاقات بين بلد أوروبي وبلد آخر خارج المنظومة الغربية.
ليست المرة الأولى التي تشد فيها الحكومة التركية عصب مجتمعها عبر استراتيجية الصراع المحدود مع جهة خارجية، فقد فعلت ذلك مع روسيا وتراجعت أمام التصلب الروسي، وفعلت ذلك مع «إسرائيل» لاكتساب التعاطف العربي والإسلامي، وفعلت مع مصر لتكسب تأييد «الإخوان المسلمين». والراجح أنه هذه المرة قد تأتي النتائج عكسية تماماً، خاصة إذا ما صمّم الأوروبيون على تلقين «الصدر الأعظم الجديد» درساً قاسياً بحجم التحدي الذي طرحه عليهم. وإن لم يفعلوا فسيصبح الرئيس التركي خلال سنوات قليلة «السلطان الأعظم» الجديد.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"