حنين فرنسي إلى روبسبير وجوست

03:25 صباحا
قراءة 4 دقائق
فيصل جلول
يكثر الفرنسيون من استخدام المنهج المقارن في حياتهم اليومية، في أحاديثهم وتعليقاتهم السوداوية. وفي هذه الأيام حيث التمهيديات الرئاسية على أشدها. يستحضر راديكاليون ظروف وأجواء عشية الثورة البرجوازية عام 1789 لمقارنتها مع الأجواء الراهنة، ويستدعون أسماء ورموزاً ثورية من تلك الفترة طافت شهرتها أنحاء العالم، لمطابقتها مع أسماء جديرة بأدوار ثورية مشابهة اليوم. نعم ثمة من يبحث هذه الأيام عن روبسبير الألفية الثالثة وسان جوست ومارا وغيرهم من التيار الإرهابي اليعاقبي الذي مارس الترهيب الثوري في فرنسا القرن التاسع عشر.
ولا يصاب المرء بالدهشة عندما يلاحظ أن الراديكاليين لا يأتون على ذكر دانتون وهو أيضاً ثوري لكنه معتدل وفقد رأسه في حكم أصدرته محكمة روبيسبير لأنه ليس ثورياً بما فيه الكفاية بل «متواطئ» مع خصوم الثورة.. إلى غير ذلك من الحجج «الداعشية» بمقاييس زمننا.
أما لماذا استحضار رموز «الإرهاب» و«الحزب الدموي» بحسب أوصاف نقاد الثورة البرجوازية، فالسبب يعود لاجتماع ظروف فوضوية ومشاكل متعددة اجتماعية واقتصادية وانكفاء داخلي وعنصرية منفلتة من عقالها وهبوط ملايين الفقراء إلى ما دون خط الفقر، فضلاً عن فساد الطبقة السياسية يميناً ويساراً، وعن برامج حكم لا يصدقها أحد، ورشى من كل صوب وفي كل اتجاه.. الخ.
هذه الأجواء تختصرها رسالة واسعة الانتشار على وسائل التواصل الاجتماعي، وجهتها ممرضة فرنسية شابة، إلى المرشح اليميني للرئاسة فرانسوا فيون المتهم بإساءة استخدام الأموال العامة وتعيين أفراد أسرته موظفين وهميين في مكاتبه في الدولة، تخاطبه الممرضة قائلة «..راتبك من أموالنا نحن -المكلفين -منذ أن بدأت حياتك السياسية عام 1976 حتى الآن، لماذا علي أن أعمل 12 ساعة و3 «ويك إند» في الشهر وأن أسهر 10 ليالٍ لكي يصل راتبي إلى أقل من ألفي يورو»، في حين أنت تعين أولادك وزوجتك في وظائف وهمية ويقبضون أضعاف أضعاف راتبي. وأضافت «لقد علمت بالأمس أنك استثمرت مبلغ 1000 يورو في شركة استشارات وحصلت على فوائد بقيمة مليون و500 ألف يورو. «وختمت بقولها.. عندما أستعيد سيرة عائلات جيسكار وميتران وشيراك وساركوزي وهولاند وفالس وفيون الذين قادوا فرنسا إلى « الغائط» الراهن حيث يوجد 8 ملايين عاطل عن العمل ومثلهم من الفقراء، تنتابني الرغبة بالتقيؤ. وعندما أستعيد الفضائح السياسية والفضائح الصحية وغيرها التي ضربت بلادنا فإنني أفقد تماماً الرغبة في الاقتراع لأنهم كلهم سواء في العفن» ودائماً بحسب الممرضة الثلاثينية.
كان يمكن لهذه الرسالة أن تكون هامشية لو لم تتلقفها وسائل التواصل الاجتماعي وتحولها إلى ظاهرة تتداولها آلاف المواقع في وقت قياسي، ما يعني أن حجم المعاناة والغضب إزاء الطبقة السياسية الفرنسية يكبر ككرة الثلج ويتفاقم مع تعذر الحلول ومع وتيرة المواقف البهلوانية للساسة الفرنسيين.
وهنا تتعدد الأمثلة فالمرشح اليميني فرانسوا فيون الذي فاز بصورة مفاجئة في تمهيديات اليمين المعتدل للترشح للرئاسة في الربيع القادم، طرح نفسه بوصفه رمزاً للطهارة ومثالاً يحتذى في الحفاظ على الأموال العامة وفي السعي لمكافحة الفساد، قبل أن تكشف وسائل الإعلام عن تورطه في توظيف أفراد من أسرته في وظائف وهمية وفي إعطاء ميدالية رسمية لأحد رجال الأعمال لقاء توظيف زوجته في وظيفة شبه وهمية في مجلة يملكها.
وإذ تشتد الفضائح وتنتشر حول فرضيات إساءة الائتمان من حوله، لا يعبأ فيون بالمنشور، ويصر على مواصلة حملته الانتخابية وكأنه يقول لمتهميه وللإعلام، سأستمر في الترشح رغم أنوفكم، ولا يتردد في الحديث عن مؤامرة تستهدفه، وذلك في موقف هو الأول من نوعه في الحياة السياسية الفرنسية في عهد الجمهورية الخامسة.
بالمقابل فاليري تريفاوليار، رفيقة الرئيس فرانسوا هولاند الاشتراكي، قامت بالكشف عن الوجه المتعالي لرئيس الفقراء المفترضين، الذي كان يسخر منهم في جلساته الخاصة بوصفهم ب «بلا أضراس»، ويصر على تناول الأطعمة النادرة والمرتفعة الثمن التي لا يحلم الفقراء بتذوقها ومن بينها، نوع من البطاطا التي تحمل اسم «نوار موتون» والتي تزرع في الرمال على شواطئ مالحة ويعادل ثمنها ثمن اللحوم.
لا يقتصر نفاق الطبقة السياسية على المثالين المذكورين، ففي العهود الماضية لم يخرج من الحكم، مسؤول كبير واحد منزهاً عن خيانة الذين انتخبوه، وفي لائحة المرشحين للرئاسة اليوم يكاد التساوي أن يشمل الجميع في اعتماد الديماغوجية، والإكثار من الوعود الانتخابية الكاذبة أو الوهمية، والتورط في قضايا فساد، وارتفاع أسهم اليمين المتطرف واليسار المتشدد، الأمر الذي يؤدي بالضرورة إلى تراجع الثقة لدى الناخب بسياسييه، والنأي بنفسه بعيداً عن صناديق الاقتراع.
وبالعودة إلى مطلع المقال أشير إلى أن الظروف الضاغطة المتشكلة من كوكتيل كبير من الفشل والفساد والبطالة وانحسار الإرادة والأمل ناهيك عن الفوضى والخوف من الإرهاب، كل ذلك يخلق ظروفاً مناسبة للثورة، وقد رأينا بعضاً من طلائعها في اعتصامات الخريف الماضي في الليالي البيضاء في الساحات العامة وقد نرى المزيد في المستقبل، الأمر الذي يفسر انتشار أسماء روبسبير وسان جوست ومارا وغيرهم من راديكاليي ثورة العام 1789، الذين قالوا إن الفساد يتطهر بالدم فقط، وهذا ما يشبه «داعش» اليوم..

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"