ثلاث دول وقضية واحدة

04:40 صباحا
قراءة 3 دقائق
حسام ميرو

لعبت عوامل عدة منذ عشرينات القرن الماضي دوراً أساسياً في بلورة ثلاث دول في الشرق الأدنى، وهي العراق وسوريا ولبنان، فمع نهاية السلطنة العثمانية دخلت قوى الانتداب الفرنسي والبريطاني إلى المنطقة، وبعد أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها، تشكل نظام دولي جديد، تقوده قوتان رئيسيتان، هما الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، صاغتا علاقات دولية جديدة، قوامها تبادل النفوذ، وتقاسم تركة القوتين السابقتين، الفرنسية والبريطانية في أماكن عديدة حول العالم، ومنها دول الشرق الأدنى.
مع بروز النظام ثنائي القطبية في إدارة النظام الدولي، كان على التجارب الديمقراطية التي عاشها العراقيون والسوريون واللبنانيون لفترة قصيرة، في خمسينات وستينات القرن الماضي، أن تنتهي، لمصلحة ما سمي ب«الدولة الوطنية»، وهي فعلياً، ما عدا لبنان، كانت دولة الحزب الواحد، في العراق وسوريا، حيث أخذ حزب البعث في كلا البلدين دور بناء الدولة، من خلال توزيع الأدوار بين العسكر والحزب، وهندسة المجتمعات، عبر منظومة ولاء وطاعة (العقد الاجتماعي)، مبنية على تسليم المجتمع بدور العسكر والحزب الواحد في رسم المصالح، مقابل حالة هشّة من السلم الأهلي، وشكل من أشكال العدالة الاجتماعية في توزيع الظلم.
اعتمدت الدولة الوطنية المزعومة في العراق وسوريا على جيش كبير العدد، وقوى أمنية تدين بالولاء المطلق لرأس النظام، وأصبحت القوات المسلحة والأمن قوة بيروقراطية نافذة، لها مهام كثيرة، وفي مقدمتها خلق شبكات اجتماعية تتبادل المصالح فيما بينها، وتشغيل أعداد كبيرة من أنصاف الأميين، ممن يفيضون عن حاجة السوق الاقتصادية، والذين لم يكن لهم مكان فعلي في دائرة الإنتاج، وينتمي معظمهم لفئات طالها التهميش، أو قريبة من البنى الاجتماعية، العشائرية والطائفية للقادة العسكريين والأمنيين.
في لبنان، لم تسمح الصراعات الدائرة من حوله وعليه، بالإضافة إلى تركيبته الاجتماعية المتصدعة، من قيام جيش وطني، وجاءت الحرب اللبنانية في منتصف سبعينات القرن الماضي لتكرّس إلى ما لانهاية حالة الانقسام الطائفي، والتي لم تنته بنهاية الحرب، بل إن «اتفاق الطائف» في عام 1989، أعاد إنتاج نظام المحاصصة الطائفية، وتقاسم الدولة بين ممثلي الطوائف السياسيين، وأبقى على سلاح «حزب الله» تحت شعار مقاومة «إسرائيل»، وهو ما حرم لبنان فرصة بناء جيش وطني جامع لكل اللبنانيين.

لقد قام السلم الأهلي في العراق وسوريا على قاعدة هشّة داخلياً، لطالما ثبتها النظام الدولي، والاستثمار في الأزمات الإقليمية، وهي الأزمات التي استخدمها النظامان العراقي والسوري لإضفاء شرعية وطنية وسياسية أمام الداخل، ومنها الحرب العراقية الإيرانية (1980-1989)، ودخول القوات السورية إلى لبنان في عام 1976، وقضية فلسطين، وغيرها من القضايا، في الوقت الذي بقيت فيه الواجهات الحديثة للدولة، مثل مجلس الشعب، والقضاء، والإدارات المحلية، مجرد واجهات شكلية، وتابعة كلّياً لهيمنة السلطة السياسية، وقد تمّت صياغة علاقات النفوذ فيها لتضمن حدّاً أدنى من المصالح لفئات اجتماعية مختلفة (محاصصة شكلية للأديان والطوائف والمذاهب والأعراق)، كديكور يحمي مقولة «الوحدة الوطنية» لمكونات الشعب.
ومع سقوط الاتحاد السوفييتي في أوائل تسعينات القرن الماضي، واختلال النظام الدولي، والتفرّد الأمريكي، بدأت الشرعية الخارجية لنظامَي الحكم في العراق وسوريا بالانهيار، وظهر بما لا يقبل الشك أن مقومات اللحمة الوطنية لم تكن موجودة، وأن «الدولة الوطنية» كانت قشرة برّانية تغلف قوى اجتماعية قابلة للتصادم فيما بينها عند أول مأزق وطني، وأنها لم تنصهر في بنى حديثة، كان يفترض أن توفرها الدولة الوطنية، وهو ما يفسر عودة تلك البنى، منذ الاحتلال الأمريكي للعراق، وبعد 2011 في سوريا، إلى مواقعها الاجتماعية القديمة، من حيث كونها مذاهب وعشائر وأعراقاً.
إن أول ما سقط من تعبيرات «الدولة الوطنية» في العراق وسوريا هو الجيش، فقد انهار سريعاً عند أول مواجهة مع الاحتلال الأمريكي في العراق، وفي سوريا خرج عن كونه مؤسسة وطنية جامعة، ليكون أداة بيد السلطة السياسية، وسبباً من أسباب اندلاع المواجهات المسلحة، وتحوّل الحراك إلى حرب. وفي لبنان، لم يتمكن الجيش من تنفيذ قرار الحكومة اللبنانية «النأي بالنفس» عن الحرب السورية، فقد ذهبت قوات «حزب الله» لدعم نظام الأسد، متجاوزة قرار الحكومة، ومن دون أي اعتبار للجيش الوطني.
في دول شرقنا العربي الثلاث قضية واحدة، هي فشل الدولة الوطنية التي تشكّلت بعد انتهاء الانتدابين الفرنسي والبريطاني، وخسرت شعوب هذه الدول فرصة تاريخية لبناء دول حديثة، تسهم في استقرار مجتمعاتها، وفي استقرار الإقليم، واليوم تكسّرت هذه الدول، وأفسحت المجال لعودة الاحتلالات بصيغها المباشرة، حيث تنتشر قوات أجنبية روسية وأمريكية وإيرانية وتركية فوق أراضيها، مع تزايد الحديث عن تدخل «إسرائيلي» عسكري في لبنان وسوريا.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"