المُدن المَصاهر

23:30 مساء
قراءة دقيقتين
لم يكن جمال الدين الأفغاني مصرياً، ولا حتى عربياً، فهو من لقبه أفغاني المولد والنشأة، لكن مصر بالذات هي التي قدمته إلينا كداعية للتجديد في الفكر الإسلامي، هو الذي أتاها أول مرة قصد بلوغ الحجاز، ولكنه آنس الإقامة فيها.
وكان عبدالرحمن الكواكبي سورياً ولد ونشأ في حلب، وفيها أصدر في سني شبابه المبكرة مجلات تقارع السلطة العثمانية، عرضته للملاحقة، فهجر حلب نحو القاهرة، وهناك وجد البيئة التي سمحت له بتطوير فكره وعطائه، حين التقى الشيخ محمد رشيد رضا ومحمد كرد علي وعبدالحميد الزهراوي وغيرهم، فنتج عن هذه الصحبة ما يمكن أن ندعوه تلاقح الأفكار التي كان من نتائجها أن كتب الكواكبي أحد أهم الكتب في الفكر النهضوي العربي ونعني به«طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد».
نستطرد أكثر لنرى أن الشقيقين اللبنانيين بشارة وسليم تقلا اللذين أتيا الإسكندرية من لبنان، هما من أصدر الجريدة العربية الأشهر حتى اليوم «الأهرام»، قبل أن تنتقل من الإسكندرية إلى القاهرة.
المفكر اللبناني التجديدي فرح أنطون ولد في طرابلس بلبنان، وشأنه شأن عبدالرحمن الكواكبي، فرّ من مسقط رأسه نحو الإسكندرية ليصدر فيها مجلة «الجامعة»، وأنشأ لشقيقته روز مجلة باسم «السيدات»، وكان هو نفسه يكتب فيها بأسماء مستعارة، ولم يبرح الرجل مصر حتى توفي في القاهرة.
أما روز اليوسف فهي لبنانية من أصل تركي، اضطر أبوها محيي الدين اليوسف للسفر من بيروت وترك ابنته التي توفيت أمها عقب ولادتها في رعاية أسرة مسيحية أطلقت عليها اسم روز.
المصادفة وحدها حملتها إلى مصر التي أتتها عن طريق ميناء الإسكندرية، لتصبح، فيما بعد، روز اليوسف الممثلة والصحفية التي نعرف، والتي أنجبت فيما بعد واحداً من كبار الروائيين المصريين: إحسان عبدالقدوس، وتحمل إحدى أهم الصحف المصرية اسمها حتى اليوم.
مي زيادة كانت مثل روز اليوسف لبنانية، ولكن لأم فلسطينية أرثوذكسية.
تلقت دراستها الابتدائية في الناصرة، والثانوية في لبنان، قبل أن تنتقل مع أسرتها إلى القاهرة مطالع القرن العشرين، ودرست في كلية الآداب، وفيها أتقنت عدة لغات، قبل أن تتابع دراساتها في الأدب العربي والتاريخ الإسلامي والفلسفة في جامعة القاهرة.
نشرت مقالات أدبية ونقدية واجتماعية منذ صباها فلفتت الأنظار إليها، خاصة من خلال صالونها الأدبي الأسبوعي.
هل نبالغ لو قلنا إن كلاً من هؤلاء لو مكث حيث ولد، ما كان سيبلغ المجد الأدبي أو الفني أو الصحفي الذي بلغه لولا البيئة الحاضنة التي تيسرت لهم في مصر، التي كانت مدنها الكبرى آنذاك مصاهر للإبداع وحاضنة خصبة لتلاقح الأفكار وتفاعلها؟

د. حسن مدن
[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب من البحرين من مواليد 1956 عمل في دائرة الثقافية بالشارقة، وهيئة البحرين للثقافة والتراث الوطني. وشغل منصب مدير تحرير عدد من الدوريات الثقافية بينها "الرافد" و"البحرين الثقافية". وأصدر عدة مؤلفات منها: "ترميم الذاكرة" و"خارج السرب" و"الكتابة بحبر أسود".

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"