نقاط الضعف والقوة في استراتيجية بوتين الدفاعية

02:52 صباحا
قراءة 4 دقائق
فيصل جلول
لم يكن أحد في الغرب يتوقع أن يضم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين شبه جزيرة القرم، وإذ ضمها برمشة عين أصيب الغربيون بالذهول وانتقلوا في التعاطي مع المسألة الأوكرانية من الهجوم الأقصى إلى الدفاع الرخو، خشية أن يبالغ زعيم الكرملين بنقل الخراب إلى الشرق الأوكراني، لكنه لم يهدأ، فكان أن اشتعل شرق أوكرانيا بسكانه العشرين مليوناً للمطالبة بالفيدرالية وبادر الشرقيون إلى استخدام السلاح دفاعاً عن مطلبهم، وقد خرجوا بالأمس إلى صناديق الاقتراع لاختيار مؤسساتهم، غير عابئين بالتهديد الغربي بعدم الاعتراف بنتيجة الاقتراع .
نجح بوتين في التعاطي مع الأزمة الأوكرانية بمنهج الخطوة خطوة وتنويع وسائل الضغط من إرسال القوات العسكرية إلى الحدود الشرقية إلى تدريب وتسليح متمردي الشرق إلى استخدام الغاز كسلاح سياسي، إلى فتح باب التفاوض ووقف النار، إلى مباركة تنظيم الانتخابات رغم اتفاق السلم المبرم خلال الصيف الماضي .
لا يخرج التعاطي الروسي مع الأزمة الأوكرانية عن الإطار الاستراتيجي الذي رسمه بوتين لوقف التمدد الغربي إلى حدود بلاده القريبة وتطويقها في حدائقها الخلفية كنتيجة لهزيمتها في الحرب الباردة . فالغرب يعتقد أن الروس خسروا الحرب وصار عليهم أن يتصرفوا بالقياس إلى هزيمتهم، وهم فعلوا ذلك في عهد الرئيس السابق بوريس يلتسين، وقبلوا بانتقال البلدان التابعة للاتحاد السوفييتي إلى النفوذ الغربي، ورضخوا للاهانات المتكررة التي وجهت إليهم في حرب البوسنة وفي كوسوفو، ولم ينبثوا ببنت شفة عندما انتسبت دول حساسة بالنسبة إليهم مثل بولونيا إلى حلف الأطلسي، فضلاً عن دول البلطيق ومعظم دول المنظومة السوفييتية السابقة، ووصل الحال إلى إنشاء قواعد عسكرية أمريكية على حدودهم الآسيوية في قرقيزيا مثلاً، فضلاً عن التعاون العسكري الأمريكي الوثيق مع أوزبكستان . . . إلخ .
في المحصلة كاد حلف الأطلسي أن يطوق روسيا من جهات مختلفة لولا استراتيجية الصد التي اعتمدها بوتين، بعد أن تخلص من مشكلة الشيشان، ومن إعادة ترتيب أوضاع روسيا الاقتصادية وإرساء قواعد صلبة لاستقرار داخلي طويل الأمد وللعبة سياسية تحظى برضا الجميع . ومن الداخل انتقل بوتين إلى حدوده المباشرة، حيث وضع حداً فاصلاً للتدخل الغربي في جورجيا، وشن حملة عسكرية رداً على الاستفزاز الجورجي توجت باقتطاع أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا وإعلانهما جمهوريتين مستقلتين، وتهديد الرئيس الجورجي السابق سكاشفيللي التابع للغرب باحتلال قصره إن لم يرضخ ويوقف النار . معلوم أن الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي ذهب يومذاك بنفسه لإقناع الرئيس الجورجي بأن أحداً لن ينجده في الغرب، وأن بوسع بوتين احتلال قصره من دون اعتراض يذكر . منذ ذلك الحين تحرص جورجيا على التصرف بتهذيب جم مع الجار الروسي، وكفّت عن أن تكون بيدقاً في السياسة الغربية الهجومية على الاتحاد الروسي .
ما حصل في جورجيا حمل معارضي روسيا في أوكرانيا وروسيا البيضاء وفي آسيا الوسطى على التروي في الاستجابة للضغوط الغربية وتجنب استفزاز موسكو التي حسمت الوضع في أوكرانيا عبر فوز أحد أصدقائها في الانتخابات الرئاسية، وبدا أن الروس قد أوقفوا الهجوم الغربي الناعم على حدودهم الأوروبية، وانصرفوا للتركيز على آسيا، وبالتالي البحث في العمل الإقليمي المشترك من خلال منظمة شنغهاي، ومع الربيع العربي بدأ الروس بإسماع صوتهم عالياً في الأزمة السورية، بعد أن تلقوا صفعة قوية في الأزمة الليبية .
الواضح أن الاستراتيجية الدفاعية الروسية الجديدة تحتاج إلى إطار منافس للهيئات الغربية وخاصة الاتحاد الأوروبي، فكانت قمة ثلاثية انعقدت في مايو/أيار الماضي في كازاخستان بين بوتين ونور سلطان نزارباييف رئيس كازاخستان ولوكاتشنكو رئيس بيلارسيا، وذلك لتأسيس الاتحاد الأوروبي الآسيوي الذي يراد له أن يكون منافساً للاتحاد الأوروبي وحاضناً لدول شرق القارة الأوروبية والبلدان الآسيوية التابعة للاتحاد السوفييتي سابقاً . وتقضي خطة الاتحاد بأن يكون على هيئة الاتحاد الأوروبي أي يكون سوقاً واسعة للتبادل التجاري، وأن يكون مستقلاً وغير تابع لأحد بخلاف نظيره التابع للولايات المتحدة وللحلف الأطلسي .
ومن المتوقع أن تنضم أرمينيا قريباً لهذا الاتحاد، وتليها قيرقيزيا ودول أخرى من بعد، ويرجح أن يتعدى سكان هذه السوق الأورو آسيوية المئتي مليون نسمة، وينتظر في حال نجاح المشروع أن تكون لديهم عملة موحدة ومؤسسات مستقلة تسيّر شؤون الاتحاد بمعزل عن مؤسسات دوله الأعضاء مثل، غير أن هذا الأمر مازال بعيد المنال، فما إن أعلن عن الاتحاد حتى اختلف الأعضاء في تفسير الهدف من إنشائه فهو اقتصادي سياسي بالنسبة إلى روسيا واقتصادي فقط بالنسبة إلى بيلاروسيا .
ولعل السؤال الذي يطرح نفسه حول استراتيجية بوتين هو: إلى أي مدى يمكن أن يذهب الرئيس الروسي في خططه لمواجهة الغرب؟ وهل يجرؤ على خوض حرب باردة جديدة دفاعاً عن مصالح بلاده ودورها العالمي؟ الجواب عن السؤال يبدو سهلاً وصعباً في آن معاً، فمن جهة لا مصلحة له ولا للغرب في عودة الحرب الباردة، لكن لا خيار أمامه غير المواجهة واعتماد استراتيجية شاملة في عالم متعولم أكثر من أي وقت مضى، ويسير بخطى سريعة نحو التعددية القطبية . ومن جهة ثانية لا تبدو وسائل روسيا كافية للرهان على نجاح المشروع، ناهيك عن أن الدول التي تشترك معها في هذا المشروع لديها حساباتها الخاصة .
كائناً ما كان حجم الضعف في استراتيجية بوتين فهو يبدو مصراً على السير بها حتى نهاياتها، مستفيداً من تردد خصومه ومن فشلهم في أفغانستان والشرق الأوسط وفي أزمة الأسواق العالمية، وفي كل الحالات إن لم يتحرك خارج حدوده فقد يضطر لمواجهة الغربيين في الساحة الحمراء في موسكو .
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"