تكلّم بالعربية

02:53 صباحا
قراءة دقيقتين
د. حسن مدن

حكى الباحث اللبناني كمال ديب، أمراً جديراً بالوقوف عنده حول علاقته بلغته الأم، العربية، بوصفه مغترباً، قائلاً: إنه يعدّ نفسه «دخيلاً» على هذه اللغة. وقبل أن يساء الفهم علينا التوضيح أن مقصد الرجل من مفردة «الدخيل» هنا هو توضيح اغترابه عن هذه اللغة لفترة طويلة، بسبب نشأته في المغترب الكندي، وانصرافه إلى اللغتين الإنجليزية والفرنسية في دراسته وحياته اليومية، ولاحقاً في عمله، حيث لم يتسن له استخدام اللغة العربية التي اكتسبها، وهو طفل، في بيروت قبل هجرته، حتى أنه نسي تنوين الأسماء، وشروط الإعراب، والنصب والجزم وترابط الكلمات والجمل وأنواعها.
في قول كمال ديب ما يذكّرنا بسيرة شاعرنا البحريني الكبير إبراهيم العريّض الذي ولد في الهند، حيث كان والده يقيم هناك لمزاولة عمله في تجارة اللؤلؤ، وحدث أن توفيت والدته بعد ولادته، فتعهدته مربية هندية لا تعرف من العربية حرفاً، وتعلم العريّض في المدارس الهندية، وأتقن الإنجليزية والأوردية وغيرها من لغات الهند، فضلاً عن اللغة الفارسية التي عنها ترجم «رباعيات الخيام»، لاحقاً إلى العربية.
أتى العريض البحرين شاباً في حوالي العشرين من عمره، ليجد نفسه وسط مجتمع غريب عليه، لا يعرف من لغته إلا أقل الكلمات التي التقطها من مجلس والده في لقاءاته المتباعدة معه، ولكنه أدهش الجميع بسرعة تعلمه اللغة العربية، نطقاً وكتابة وقواعد ونحواً، في ذلك العمر، حتى أصبح يقرض الشعر بالعربية التي وضع بها عدة دواوين، فضلاً عن دراساته النقدية، وبينها كتابه المهم «المتنبي بعد ألف عام».
في حال كمال ديب، فإنه، على خلاف العريّض، «بعث» اهتمامه باللغة العربية التي كان درسها في المدرسة وهو طفل.
في عام 1991 طلب منه أصدقاء أن يكتب في صحيفة لبنانية في المهجر، صاحبها مهاجر لبناني جديد ضليع في اللغة ويكتب الشعر. منذ المقالة الأولى، لاحظ صاحب المجلة أن مضمونها ممتاز، ولكن الكاتب بحاجة إلى تجديد وتنشيط معرفته بالعربية، وأهداه مجموعة من كتب الأب رشيد الشرتوني الأربعة في قواعد اللغة العربية، فانكبّ على دراستها بتمعن وإخلاص، منطلقاً من حافز محض شخصي وهو تعلم هذه اللغة.
حين يأتي الكاتب لبنان في زيارات يحرص على ألا يمزج أحاديثه مع محيطه بتعابير إنجليزية وفرنسية، ويبدي دهشته من إصرار الكثيرين ممن يلتقيهم هناك على خلط كلماتهم بمثل تلك التعابير.
أصبح للرجل الذي «استعاد» لغته، مؤلفات مهمة بها في الشأن اللبناني سياسياً وثقافياً، تعدّ مراجع مهمة جديرة بوقفات أمامها.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب من البحرين من مواليد 1956 عمل في دائرة الثقافية بالشارقة، وهيئة البحرين للثقافة والتراث الوطني. وشغل منصب مدير تحرير عدد من الدوريات الثقافية بينها "الرافد" و"البحرين الثقافية". وأصدر عدة مؤلفات منها: "ترميم الذاكرة" و"خارج السرب" و"الكتابة بحبر أسود".

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"