قيم «الكاستروية»

04:21 صباحا
قراءة 4 دقائق
ما الذي يحمل ابن عائلة ثرية، على التضحية بمكانته، وتجريب حظه مراراً مع الثورة المسلحة، من أجل التخلص من نظام فاسد؟ الم يكن بوسعه التعايش كغيره مع هذا النظام؟ بل الصعود عبره إلى أعلى المراتب؟ ثم ما الذي يحمل رفيقه الطبيب وابن العائلة الميسورة جيفارا على اعتماد الطريق نفسه، والتضحية بحياته من أجل قلب نظام أو أنظمة حكم مستبدة هنا وهناك وتابعة للولايات المتحدة،في الوقت نفسه، هل حقق الكوبيون مع كاسترو أحلامهم الموعودة في الرخاء والحرية؟
هذه الأسئلة عاصرت الثورة الكوبية ضد نظام باتيستا الفاسد في هافانا، وعادت للظهور مجدداً مع غياب قائد الثورة فيديل كاسترو.

طرح هذا النوع من الأسئلة يخفي في طياته تفسيراً يقول إن الفقراء فقط يثورون وإن ثورتهم تتم لأسباب اقتصادية، وبالتالي من ليس فقيراً لا دافع له للثورة، ولا مصلحة له فيها. فهو ابن الطبقة أو الطبقات السائدة التي ينبغي أن تدافع عن نظامها لا أن تطيح به.
عثر الماركسيون على إجابة جزئية، لكنها غير كافية، ومفادها أن هذا النوع من الثوار يخون طبقته التزاماً بقضايا الطبقة الكادحة، أي إنه يحتفظ بدوافع أخلاقية، تحمله على التخلي عن امتيازاته لصالح الفئات المسحوقة، وأن هذه الفئة التي تمارس «الخيانة الحميدة» إن جاز التعبير، تنتمي غالباً إلى الطبقة البرجوازية الصغيرة التي تضم فئات مختلفة بعضها مرشح للصعود إلى أعلى وبعضها مرشح للهبوط إلى الأدنى، وبالتالي يفضي موقعها غير المستقر إلى مواقف بهلوانية بعض منها يشبه موقف كاسترو ورفيقه جيفارا من الثورة الكوبية وآخرين في ثورات البلاشفة في موسكو والماويين في بكين وغيرهم في ثورات وبلدان أخرى.
وعلى الرغم من أهمية هذا التفسير، إلا أنه يظل قاصراً عن الرد الشامل على الأسئلة المطروحة أعلاه. ولعل الإجابة الأقرب إلى الواقع تأتينا من سيرة الثنائي المذكور التي تفيد في الحالتين أن النظام الكوبي كان أشبه بماخور عملاق في أمريكا اللاتينية للترويح عن أثرياء الولايات المتحدة عموماً، وبالتالي فإن بقاء هذا النظام أو زواله، ليس رهناً بإرادة الشعب الكوبي وإنما بإرادة المستفيدين الأجانب منه، لذا نرى أن الانعطافة التي دفعت بكاسترو إلى انتهاج طريق الثورة تتمثل في محاولة تغيير النظام عبر الانتخابات، لكن باتيستا ألغى الانتخابات التي ترشح لها الزعيم الكوبي، ما حمله على التفكير في التغيير الجذري. وكذا الأمر بالنسبة للأرجنتيني تشي جيفارا، الذي جال في أمريكا اللاتينية، وخلص إلى ما خلص إليه كاسترو، وإذ اجتمعا قررا السير على خطى سيمون بوليفار محرر أمريكا اللاتينية والحالم بوحدتها.
وما يصح على الثورة الكوبية، يصح أيضاً على الثورة البرجوازية الفرنسية عام 1789 التي بشر بها ودعا إليها وقادها فريق من النبلاء المهمشين في طبقتهم أو الذين ما عادوا يجدون في النظام الإقطاعي ضالتهم. ومن المفيد الإشارة إلى أن فولتير ومونتسكيو وروبسبيير وكاميل دومولان وسانت جوست ومارا وغيرهم من مفكري الأنوار أو ثوار عام 1789 كانوا من الذين مارسوا «الخيانة الحميدة» لطبقتهم وإن قلة منهم فقط لم تكن نبيلة الأصل والفصل. بل يخبرنا التاريخ الفرنسي أن إعدام الملك لويس السادس عشر قد تم بقرار برلماني بفارق صوت واحد لصالح الإعدام هو صوت الدوق «فيليب دورليان» ابن عم الملك وكان يوصف ب «فيليب دوغاليتيه» أو فيليب المساواة.
بيد أن حالة كوبا وربما حالات الثورات الاشتراكية المماثلة التي حوصرت حتى تفشل ولا تتحول إلى نموذج يحتذى ويهدد الأنظمة الرأسمالية، هذه الثورة تميزت بالتجريبية وقلة الخبرة عند ذوي القرار فيها. الأمر الذي أدى إلى هجرة مئات الآلاف من الكوبيين إلى الولايات المتحدة، والى سنوات قحط كادت ترمي أقساماً من الكوبيين في مهب المجاعة. ناهيك عن أن فئة واسعة من السكان السود لم تصل إلى مراكز القرار في الحزب الحاكم وفي مواقع السلطة الأولى حتى الآن.
وما يسجل لكاسترو وجيفارا في هذا المجال هو أنهما حولا كوبا من بلد ماخور لأثرياء الشمال الأمريكي إلى بلد يضج بالكرامة والحيوية، ويحمل الفخر لأبنائه الذين عانوا طويلاً من الشح ومن تقلبات الحاضنة السوفييتية في موسكو، لكنهم شعروا بالفخر عندما نجح وطنهم في مواجهة الولايات المتحدة وصار قاعدة ومحجة لكل دعاة التحرر في أمريكا اللاتينية.
مع غياب كاسترو يطرح السؤال حول إنجازاته ومن بينها مستوى معيشة الكوبيين والتطور الذي حققته البلاد.. قد لا تكون الإنجازات فائقة الأهمية وقد لا تكون حياة السكان قد انقلبت رأساً على عقب، لكن المؤكد أن النظام الاقتصادي والصحي والتربوي هو الأفضل بالنسبة للفقراء مقارنة بدول أمريكا اللاتينية الأخرى بل ولدول كثيرة أخرى. والمؤكد أيضاً أن الشعب الكوبي أصبح فخوراً بدولته وما عاد مرشحاً للعيش في ماخور يقتات على فتات أثرياء الشمال.
ما من شك في أن الثمن الباهظ الذي دفعه الكوبيون لا يطابق الإنجازات التي تحققت على الصعيد الاقتصادي، لكن الإنجاز الأهم وهو الحرية التي لا تقدر بثمن. ولعل هذا هو الضمان الأهم للثورة الكوبية بعد غياب كاسترو وربما بعد غياب شقيقه راؤول. ذلك أن المؤشرات تفيد بأن الشعب الكوبي لن يعود إلى الوراء، ترفده في هذه الإرادة شعوب أمريكا اللاتينية التي تخلص قسم كبير منها من أنظمة التبعية لواشنطن وصارت كوبا بالنسبة إليها قاعدة ملهمة للتمرد ولاستعادة الكرامة.. لقد غاب كاسترو لكنه وشم شعبه بالكرامة والحرية وعدم الخضوع وهي قيم لا تقاس أهميتها بالدولار أو بالعملات الصعبة الأخرى.


فيصل جلول
[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"