التعبير الحر شرط وجودي

03:17 صباحا
قراءة 4 دقائق
فيصل جلول

لا بد من الاعتراف بأن لدينا، نحن العرب، مشكلة عويصة مع التعبير الحر، وأن تيارات مهمة بيننا لا تطيق سماع الرأي الآخر، وتفضل كتمه بكل الوسائل، تارة باسم الدين، وتارة أخرى بأسماء أخرى، علماً بأن التعبير الحر شرط وجودي حاسم لا يمكن لأمة، أو لشعب، أو لجماعة طلب الأفضل من دونه. إن أسوأ ما يمكن أن يقع لأمة، أو لشعب، أو لجماعة هو أن يعاقب التعبير بالصمت، أو القتل العمد، أو الترهيب، أو سيادة الرأي الواحد.
إن الطبيعة نفسها تنطوي على تعبير متعدد في مختلف المجالات. لنتخيل في عالم الطب، أن طبيباً فرض دواء واحداً على كل البشر، كيف سيكون حالهم مع كل الأمراض. ولنتخيل في الهندسة المعمارية سيادة النموذج الواحد، فأي كارثة بيئية ستحل بعالمنا. إن نظرة سريعة إلى هيئة طبيعتنا تفصح عن أن التعبير المتعدد هو اصل الحياة. هل ثمة حياة لو أن الأرض كلها صحراء قاحلة، وما فائدتها لو كانت كلها مكسوة بغابة واحدة، أو محيط يلفها من أقصاها إلى أقصاها؟
لنتأمل في هيئة الأفراد، هل يمكن أن تكون حياتهم جميلة، وممكنة لو كانوا كلهم بلون بشرة واحد، وطول واحد، وعيون واحدة، وأنف واحد، وشعر واحد، وجنس واحد؟
إذا كان التعدد شرط وجود وحياة فكيف لا يكون التعبير عنه أيضاً شرط وجود وحياة؟
إن كل الأفكار الفاشية والنازية التي أريد لها أن تكون مطلقة لا تقارن ولا تناقش، والتي فرضت بالقوة والترهيب لم تدم طويلاً، وهي تنام اليوم مستقرة في مزابل التاريخ، ما يعني مرة أخرى أن التعبير الحر التعددي هو الوجه الآخر للوجود التعددي الغني بكل معنى.
هذه القاعدة قد تبدو للوهلة الأولى بديهية وطبيعية إذا ما نظرنا إليها بطريقة مجردة، لكنها في واقع الحال بعيدة عن البداهة، والدليل أن العوالم المختلفة ما زالت تشكو منذ نشوئها من الاستبداد المتفاوت، والسعي لفرض الرأي الواحد. ما زالت مختلف عوالمنا تضيق ذرعاً إلى هذا الحد أو ذاك، بالتعبير الحر، والرأي الحر، وما زالت تعاني انتشار ردود فعل عنيفة وقاتلة ضد المعبرين بحرية عن أفكارهم وآرائهم وتطلعاتهم. وليس صحيحاً أن هذا الحال ماركة مسجلة باسم العرب والمسلمين.
فالثابت تاريخياً أن محاكم التفتيش الكاثوليكية أصدرت أحكاماً ضد 90 ألف عالم لمخالفتهم آراء الكنيسة، وكانت تحرق، أو تخوزق العلماء الذين تسميهم زنادقة، حيث تعريف الزنديق هو الذي ينشق عن الكنيسة الكاثوليكية، أو يرفضها، عقيدة وسلوكاً. وكان نوركويمادا رئيس محاكم التفتيش يخوزق المتهمين بالتفكير السيئ، مدعياً العطف عليهم «نحن نحرقك في الدنيا رحمة بك، حتى ننقذك من النار الأبدية في الآخرة».
وقد حرمت محاكم التفتيش قراءة كتب نيوتن وطالبت بحرقها، وينسب إلى الكاردينال اخيمينس أنه حرق في غرناطة وحدها 8 آلاف مخطوطة كلها لا توافق التفكير الكنسي.
وإذا كان صحيحاً أن الدول الإسلامية المتعاقبة في التاريخ، قد شهدت اضطهاداً لمفكرين وعلماء وشعراء، فالصحيح أيضاً أن الاضطهاد ما كان شاملاً، وما كانت محاكم تفتيش في الإسلام، بل يمكن القول مع بعض التحفظ لندرة التوثيق أن العلماء المضطهدين كانوا قلة لا تتعدى العشرين ممن قتلوا أو عذبوا، وأن الأمر كان يتصل بموقف الحاكم، وليس المؤسسة الدينية، كما هي الحال مع الكندي الذي حظي بعطف ودعم المأمون والمعتصم بالله، لكنه اضطهد في عهد الواثق بالله، لأن أفكاره طابقت أفكار المعتزلة التي ما كانت تروق للواثق المتشدد دينياً. وكان حاكم قرطبة متعاطفاً وراعياً لابن رشد، إلى حد أنه طلب منه تلخيصاً لأفكار أرسطو، إلا إنه غضب منه بسبب الدس من خصومه، وأبعده وأحرقت كتبه، لكنه أعاد إليه الاعتبار قبل وفاته ب3 سنوات.
الواضح أن الاختلاف في حجم وأثر الاضطهادين بين العالمين ناجم عن هرمية الكنيسة واحتكارها تمثيل الدين وضبط التفكير «السليم»، وفصله عن التفكير «الخاطئ»، أو المزندق، في حين أن الإسلام الذي يخلو من الكنيسة كان يتيح هامشاً أكبر للمناورة، إلا أن مشكلة الفكر العربي والإسلامي الكبرى، ليست مع عصور الإسلام في القرون الوسطى التي كانت عصور تنوير بالقياس إلى غيرها، وإنما في الاستبداد العثماني الذي دام أربعة قرون كانت قاحلة على كل صعيد، وخلت من مفكر واحد، وطبيب واحد، من طراز ابن رشد، أو محمد الغافقي.
يفيدنا ما سبق في استخراج الدرس المفيد في النظر إلى التعبير الحر، بوصفه قانوناً طبيعياً يتيح للأمة النهوض دائماً، واستدراك هبوطها دائماً، في حين يؤدي عقاب المعبرين بالقتل، أو الخازوق، أو الحرمان، أو بتهمة الزندقة إلى تصحير المجال العام، وبالتالي قتل الأمة بقرارات غبية.
إن اغتيال المثقفين من كل طيف هو كإطلاق النار على الذات. فالمثقف السيئ، إن جاز القول، هو الوجه الآخر للمثقف الجيد بحسب شاعر القصيدة اليتيمة: ضدان لما استجمعا حسُنا.. فالضد يظهر حسنه الضد.
قيل هذا في القرن التاسع الميلادي.. ومع ذلك هناك من يصف تلك العصور بالظلام الأسود. والأدق هو أن ظلاماً كالحاً معمماً يضربنا هذه الأيام التي يقتل فيها مثقف على درج قصر العدل حتى بعد اعتذاره عن حركة عابرة أتاها وليس عن فكرة. كأنه لا يستحق المغفرة على غرار غاليليه الذي سامحته الكنيسة رغم تشددها قبل خمسة قرون بعد اعتذاره وتخليه عن فكرة غيرت العالم.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"