عرب من دون أوهام

03:13 صباحا
قراءة 4 دقائق
جميل مطر

أتيت بخريطة للعالم العربي، اخترتها من بين عدد من الخرائط جمعتها عبر سنوات، كانت هواية استمرت معي وقتاً غير قصير. بدأت ممارسة هذه الهواية، فيما أذكر، في سن مبكرة، وقتها كنت طالباً في الجامعة أعمل وقت فراغي في مكتبة عامة أجنبية. أظن أنني كتلميذ علم سياسة وجدت من يحفزني على تتبع مراحل خضوع العرب لقوى سياسية متنوعة، وثقافات متباينة، وطوائف، ومذاهب، وجماعات إرهابية بأصول دينية، وجماعات وعائلات إرهابية مجنونة، أو متعصبة الأصول، وما زلت أحتفظ بهذا الحرص، أزداد بفضله علماً، ومتعة.
الخريطة التي أتخيلها بين يدي، هي آخر ما تمنيت أن تخرجه مطابع الدول الكبرى. خريطة تجمع في ذاتها مجموعة خرائط جيو سياسية، وجيو اجتماعية، وجيو اقتصادية، وجيو أمنية، كلها في خريطة واحدة. نظرة واحدة، ولكن متعمقة وصبورة إلى الخريطة تغني عن قراءة كتب كثيرة، والعديد من أوراق بحثية وقورة. تغني أيضاً عن جهود في التنقيب في صفحات «جوجل» وغيره، بحثاً عن حقائق جديدة في واقع دول المنطقة العربية وشعوبها. وإن أطلنا النظرة، وبعدها التأمل، لربما استطعنا التنبؤ بحال العرب بعد جيل، أو جيلين، وهم مجتمعون في حيرة يدرسون كيف يواجهون، وهم متفرقون، جحافل زاحفة عبر كل حدودهم، كلها من دون استثناء.
تخيلت الخريطة، وقد احتلت مكاناً متميزاً أمام مكتبي، تخيلت نفسي أنظر إليها مستغرباً، ثم منبهراً، ثم غاضباً، ثم راضياً بحالها، وحالي، ثم متمرداً، أو ثائراً، ثم متألماً، ثم منكسراً.
قيل لنا عنها إنها ليست آخر الخرائط، ربما هي الخريطة قبل الأخيرة. وواضح مما هو أمامنا أن جهوداً مكثفة، ورحلات شاقة، وأموالاً وفيرة خصصت بالفعل لوضع اللمسات النهائية على الجزء المسمى «إسرائيل» في الخريطة. في قول آخر إن هذه اللمسات لن تكون كما يأمل زعماء عرب وأجانب، هي اللمسات النهائية. إذ إنه ما إن يختفي الفلسطينيون في أركان بعيدة عن مرأى القدس إلا ويعود «الإسرائيليون» يطالبون بأرض عاش أجدادهم عليها معذبين، أو مضطهدين، أو متمكنين، وأحراراً، وأراضٍ مروا بها أثناء الهرب من فرعون، وجيوشه الحمقاء، حسب روايتهم، أو خلال تمردهم في سيناء على النبي موسى. أراضٍ شاسعة تلك التي يحلمون بالاستيلاء عليها، منها ما هو في الجزيرة العربية، وبعضها متاخم لأماكن المسلمين المقدسة، ومنها ما هو في بلاد بين النهرين. ولهم مراقد لأولياء صالحين نحيي لهم أعيادهم ونستقبل زوارهم ليعودوا فيستأنفوا بكل الإيمان والنقاء الروحي طرد الفلسطينيين من بيوتهم.
تقول الخريطة في جسارة مؤلمة، إن من رسمها لم يجد سبباً واحداً يمنعه من إقرار أن ألوان اليهود الزرقاء والبيضاء، سوف تكون طاغية في الطبعات القادمة لهذه الخريطة. وتشي التفاعلات التي شهدتها المنطقة على مر السنوات الماضية بأن العرب الذين حكموا هذه الأرض العربية منذ استقلالهم، أي خلال قرن كامل، أو ثلاثة أرباع قرن، لم يفلحوا في وقف تمدد «إسرائيل»، ولا يوجد حتى لحظة كتابة هذه السطور ما يؤكد أنهم جاهزون للتغيير، أو لصد أعدائهم الحقيقيين، والمتخيلين بقوتهم الذاتية، والمستقلة.
كلمة حق أخرى يجب أن تقال.. تعترف الخريطة بأنه في منطقة بهذا الاتساع لا توجد بين الدول الناطقة بالعربية حدود سياسية مشتعلة بالحرب، باستثناء حالة واحدة. جدير بالذكر والتوقف قليلاً عند هذه الظاهرة، أن هناك خلافات بين كل دولتين متجاورتين بسبب أخطاء ارتكبها الاستعمار عند رسم الحدود، أو لأسباب أخرى، بعضها، أو أغلبها يتعلق باختلافات في رؤى الطبقات السياسية الحاكمة.. ومع ذلك، ومع الأخذ في الاعتبار أن الخريطة رسمت الحدود واضحة بين أكثر من عشرين دولة، وأن النزاعات عدة ومتنوعة بين أغلب الدول العربية، وبعضها بعضاً، إلا أن المنطقة على خريطتها تبدو هادئة، وتكاد تخلو من الحروب العربية- العربية. بمعنى آخر لا أرى أن المنطقة العربية تستحق الاتهام بأنها منطقة تمارس العنف في معظم علاقاتها البينية. ولا يعني هذا أن المنطقة بريئة تماماً والخريطة شاهدة.. فإن كانت الحدود غير مشتعلة بالعنف تبدو الدول العربية، كل دولة على حدة، مشتعلة بدرجة أو أخرى من درجات العنف. هناك دول مشتعلة بالحروب الأهلية، ودول أخرى بالثورات الشعبية، أو مظاهر أخرى للاحتجاج والتمرد، وردود الحكومات عليها. ولا تكاد توجد دولة من دول المنطقة لا ينطبق على حالتها الأمنية صفات غير العنف وعدم الاستقرار واستخدام درجات قصوى من القمع. لا عنف عبر الحدود إلا نادراً، وأغلب العنف داخل الحدود.
شائع القول، أن العرب في أزمنتهم القديمة بشروا بديانة سماوية، مثلهم في ذلك مثل أمم كثيرة عاشت مع العرب، أو إلى جوارهم، فكان لهم فضل يحسب لهم. القائل نفسه، أو غيره يمنح العرب شرف إطلاق فكرتين في أوائل القرن العشرين، بينما كانوا يستعدون للحصول على نوع مقيد من الاستقلال. الفكرتان هما القومية العربية، والإسلام السياسي. مرة أخرى انظر إلى الخريطة بحثاً عن تطور الفكرتين منذ النشأة وحتى الآن. ما زالت الخلافات حادة حول أصول الفكرتين، ومواقع الانتشار، وهناك اختفاء شبه كامل للقومية العربية، وفوضى في صعود وهبوط الفكرة الثانية. هنا تعمدت الخريطة أن تربط اختفاء القومية العربية بانكسارات الحروب مع «إسرائيل»، وبالحرب الباردة العربية، وتربط انحسار الإسلام السياسي بأنواع مختلفة صاعدة في دول غير عربية، دول تعيش في الجوار وتبشر بما لديها.
العرب الآن، بشهادة الغرب والشرق، يعيشون أدق لحظات تاريخهم، الأوهام تنقشع، والمستقبل حل قبل موعده والخريطة العربية جاهزة للتغيير.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي مصري سابق وكاتب متخصص بقضايا العلاقات الدولية. اشترك في تأسيس مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بمؤسسة الأهرام. وأنشأ في القاهرة المركز العربي لبحوث التنمية والمستقبل. عضو في مجلس تحرير جريدة الشروق المصرية ومشرف على صفحة الرأي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"