التطرف واغتيال العقل

03:24 صباحا
قراءة 3 دقائق
محمد خليفة

يشهد العالم اليوم تحولات كبرى لا يمكن أن تقاس بما سبقها في التاريخ الإنساني. تحولات مذهلة تتمحور بشكل رئيسي في ثورة الاتصالات والمعلومات التي أنتجت للعالم صناعة جديدة، ساهمت في تحقيق تقارب شديد التداخل تنصهر فيه سعة المكان مع ثواني الزمان، هذه الثورة التكنولوجية أيضاً جعلت الإنسانية تتأرجح بين حدين، فإما تفكك نهائي وإما وحدة جماعية إنسانية، بعد أن تكسرت حواجزه، وتهدمت أسواره بفعل التطور التقني والفكري.
لقد أصبح العالم أشبه ما يكون بمدينة كبيرة، حتى ظهرت القوة الظلامية قوة شيطانية، وضعت حداً لطموح الإنسان، وجعلت من الإنسانية تسير القهقرى نحو التخلف والتطرف، وهي الظاهرة الأولى التي تتمثل في النزعة الأصولية التي تنفجر في كل مكان؛ هذه النزعة تعمل من أجل أن تعود الأمم إلى الحالة البدائية المطلقة، ينتفي فيها الوضع الإنساني لتصبح في وضع حيواني كامل. وينتشر العنف في سلوك عدواني موجّه نحو الفوضى والتمرد. وقد يكون مادياً ومعنوياً، ليصبح العنف هو المحرك الثقافي للتصور الظلامي التكفيري، بحيث يؤدي إلى الاستبداد السياسي المتحالف مع الأصوليين الذين يهيمنون على مقادير السلطة الدينية ويفرضون آراءهم على الناس من فوق عن طريق الهيبة والتخويف والقوة.
يتصور أولئك المتطرفون، ومن يشبههم أو يواليهم، أنهم ينتصرون للدين والعدل والحق، ولكنهم في الواقع هم يشوهون صورته في العالم أجمع، ويجهلون أن الدين يسر، وأن الله محبة، وأن الإيمان إخلاص والعقيدة ضمير. كينونة الشر هذه عملت على تأسيس علم الجهل، هو ليس علة فردية شاذة، وإنما هو وباء جماعي واسع الانتشار، فضرره يأتي من الجهل بالجهل، ليس فقط عائقاً للتطور وإنما هو سبب شيوعه يشل المجتمعات عن النمو، ويحول بينها وبين الازدهار، ويغلق أمامها أبواب التفتح، وبذلك تصاب المجتمعات بالقحط والانحطاط والتدهور، وتؤدي إلى العدمية التي تقول إن العالم والوجود البشري ليس له معنى، وإنما هذه الأصولية الظلامية التي تهدد البشرية جعلت من أبناء هذه الأمة التعلق بثيمة الموت، من خلال التفجير الانتحاري أو القتال حتى الموت من دون هدف؛ لإيمانهم بأن الموت وحده يتيح لهم أن يعيشوا مرة أخرى في النعيم.
فرسموا لهم باسم الله وعلى مذبح الإيمان الزائف، تأكيد الذات وتمييزها في مواجهة الآخرين، وفي طريقة حادة وعنيفة. فرسموا لأنفسهم طرقهم الخاصة في العيش، حتى وصل الأمر ببعضهم لاختيار الانتحار لتخليص أرواحهم من الحياة، حيث يتوهمون أن طريق الجنة لا يمكن إدراكه إلا بوهم الحياة، ما يجعلهم من اختيار نهاية مؤلمة، نحو الكمال المدمر للوصول إلى النعيم الزائف. وخير دليل على وهم الإيمان والانهيار الروحي لدى هؤلاء ما قام به المجرم عثمان خان عندما قتل أشخاصاً أبرياء مدنيين قرب جسر لندن الأسبوع الماضي، وهو لا يعرفهم ولا يعرفونه لمجرد أنه صادف وجودهم في المكان نفسه، وقام بإنهاء حياتهم وانتهت حياته.
يعتقد مثل هؤلاء أنهم بذلك يصلون الوعي الإيماني بالذات إلى الذات العلية الربانية. هذه الجاذبية السوداء وهي حقيقة السؤال الذي يدور عن معنى الموت أو ماهيته، جعل من حديث الموت يمر على الناس مروراً عابراً، لا يثير فيهم سؤالاً فلسفياً أو ميتافيزيقياً أو اجتماعياً أو بنيوياً سيكولوجياً، باعتبارها صورة عن الموت المكرر، ولنقل الموت الاعتيادي. وعندما يصبح الموت اعتيادياً يفقد ملكة الإثارة أو حافز التأمل، إنه ينحسر حقاً، إلى ما يشبه موجز نشرات الأخبار اليومية، غالباً ما يتلافى مشاهدتها، موت مستمر في دوامة التخلف والتشرد إلى ما لا نهاية، بسبب انهيار الخطاب الإيديولوجي المعتدل، داخل المنهجيات العقلانية، وإهمال العقلانية، أي قدرة العقل على ممارسة المعرفة ومقاربة الحقيقة. وهو الميدان الذي شكل النقد التنويري للدين، وبذلك يصبح العقل المعتدل أقرب إلى الموقف الإبستيمولوجي معرفياً يحترم العقل ويسعى إلى تنظيم المجال الأخلاقي والاجتماعي على أسس عقلانية، يمثل رؤية شاملة للحياة، لتصبح القيم الأخلاقية والفضيلة هي ما يتوافق عليه البشر. فالاتفاق البشري هو أصل الخير، من مبدأ الخير العام الكوني، الذي يسمو على الثقافات المتطرفة ويتجاوز الإقصاء والتطرف، ويعكس السنن التاريخية للحضارات والخبرة المشتركة للمجتمعات المتمدينة وقوانين الفطرة.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي وكاتب إماراتي، يشغل منصب المستشار الإعلامي لنائب رئيس مجلس الوزراء في الإمارات. نشر عدداً من المؤلفات في القصة والرواية والتاريخ. وكان عضو اللجنة الدائمة للإعلام العربي في جامعة الدول العربية، وعضو المجموعة العربية والشرق أوسطية لعلوم الفضاء في الولايات المتحدة الأمريكية.

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"