البحث عن صلاح الموجي

03:10 صباحا
قراءة 4 دقائق
عبد الله السناوي

القصة بكل مشاهدها وتناقضاتها تراجيدية حتى لا تكاد تصدق، وشخصية بطلها أضفت عليها من فرط التشهير المتعمد شيئاً يقارب الأسطورة.
لم يكن «صلاح الموجي» بتاريخه الجنائي مرشحاً وفق أية معايير طبيعية لهذا القدر من الاستعداد للتضحية بحياته لمنع إرهابي مسلح وجريح من قتل ضحايا آخرين أمام كنيسة «مار مينا» قبل احتفالات أعياد الميلاد.
لماذا خاطر بحياته، وهو لا يعرف ما إذا كان الإرهابي الجريح يرتدي حزاماً ناسفاً أم لا، والبندقية الآلية مازالت في يده؟
ثمة شيء إنساني عميق دعاه أن يغادر سريره في منزل قريب، عندما سمع أصوات الرصاص تدوي في المكان، ونداءات الاستغاثة ترتفع من على مئذنة مسجد؛ لإنقاذ الأقباط المحاصرين داخل كنيستهم.
كأي قصة تراجيدية وجد نفسه في لحظة أمام قدره، وقف على ناصية يتأهب فرصة سانحة.
عندما سقط الإرهابي جريحاً، قطع الطريق إليه في قفزات متتالية، نزع سلاحه وجرده من قنبلة بدائية كانت في حوزته.
إلى هنا تنسجم القصة إلى حد كبير مع قصص أخرى مشابهة لمواطنين عاديين، يهرعون للنجدة بدوافع الشهامة، والمساعدة في لحظة خطر.
في مشهد القبض على الإرهابي، الذي التقطت تفاصيله كاميرات المحمول، بدا لافتاً أن عشرات المواطنين هرعوا جرياً خلف «الموجي» إلى حيث يمثل الخطر مسلحاً.
ذلك النوع من السلوك تلقائي ومتكرر، ويمكنك ببساطة أن تلحظه في أعقاب الأعمال الإرهابية، وقبل استبانة ما إذا كان الخطر قد زال أم لا.
ما التفسير الاجتماعي؟ السؤال بلا إجابة حتى الآن تستند لبحوث ميدانية، أو دراسات معمقة.
حالة «الموجي» نموذجية في البحث والتقصي. نتحدث كثيراً عن الدور الحاسم، الذي يمكن أن يلعبه الظهير الشعبي في الحرب مع الإرهاب، دون أن يكون واضحاً: ماذا نقصد بالضبط، ولا كيف، ولا بأي شروط يشتد عوده؟
أسوأ ما في قصة «الموجي» أن هناك أطرافاً ضايقتها الشعبية التي حازها، والبطولة التي أسبغت عليه، والتكريم الذي ناله من وزير الداخلية، خشية أن تتهم بالتقصير في الحادث الإرهابي، وأوجه التقصير عديدة بذات قدر التضحيات التي بذلتها قوة التأمين.
جرى تسريب أنصاف معلومات عن أن البطل المفترض محض مسجل خطر. فهو قد سبق اتهامه في أربع قضايا جنائية بين عامي (1992) و(2007)، بتهم تتراوح بين المشاجرات والاتّجار بالمخدرات، لكنه حصل فيها جميعاً على براءات من المحاكم التي مثل أمامها.
إعلان نصف الحقيقة وإخفاء نصفها الآخر جريمة أخلاقية، وتشهير متعمد بمواطن كل ذنبه أنه واجه الموت بشجاعة؛ لإنقاذ أبرياء من رصاص الإرهاب. بافتراض أنه «مسجل خطر» فذلك يضيف إليه، ولا يسحب من رصيد بطولته التي أبداها دون أن يتوقع شكراً أو تكريماً.
أحياناً ننسى أن بعض الأساطير الإنسانية تنسب لرجال شجعان وطائشين لهم تاريخ إجرامي.
في الفلكلور البريطاني تبرز شخصية «روبن هود»، وهو قاطع طريق، ماهر في رشق السهام، وله سجل إجرامي طويل، غير أن المخيلة الشعبية في القرون الوسطى أضفت عليه طابعاً أسطورياً.
وقد جمعت شخصيته الملحمية صفات متناقضة، فهو لص خارج عن القانون، لكنه مهذب وعادل، يأخذ من الأغنياء؛ ليعطي الفقراء، ويقاوم الظلم والطغيان بشجاعة لا تغلب.
رسم الشخصية على هذا النحو نوع من التمرد على سطوة الطبقات الحاكمة وما ترتكبه من مظالم، أو ربما نوع من التمني أن يمتلك الناس العاديون نفس الشجاعة لاسترداد الحقوق المسلوبة.
وفي الملاحم المصرية تتبدى شخصية «أدهم الشرقاوي» كبطل شعبي يقاوم الاحتلال والأعيان، وينتصر للضعفاء والمسحوقين، رغم أنه قاطع طريق.
هناك شيء من التشابه بين الملحمتين في بيئتين مختلفتين وعصور متباعدة. حالة «الموجي» لا علاقة لها بأية مخيلة شعبية، فهو رجل شاهد بطولته الناس على شبكات التواصل الاجتماعي، له أخطاء فادحة في مرحلة من حياته، استقام بعدها واستقرت أحواله، متمتعاً بمحبة تلاميذ المدرسة الخاصة التي يعمل سائقاً بها وفق شهادات مصدقة.
بطولته هي بطولة المواطن العادي، الذي يكتشف نفسه في لحظة الخطر كأنه عاش عمره كله من أجل هذه اللحظة بالذات.
أحياناً ننكر تاريخنا الفعلي لا الافتراضي، الذي شهد بطولات لرجال حولهم ظلال وشكوك.
وقد سجل المفكر الفرنسي «فرانز فانون» في دراسة عن سيسيولوجية الثورة الجزائرية بعد خمس سنوات من انطلاقها، ما جرى من تحولات إنسانية ودراماتيكية لشخصيات لها ماضٍ جنائي باتت من أيقونات الثورة أمام تحدي الموت، دفاعاً عن عروبة الجزائر واستقلالها.
وفي مصر كانت ظاهرة لافتة أن معدلات الجرائم الجنائية انخفضت بصورة كبيرة أثناء الحروب التي خاضتها أعوام (1956) و(1967) و(1973).
لا يمكن كسب الحرب على الإرهاب بمثل هذه العقلية التي سربت أنصاف معلومات، وشهرت ببطولة المواطن العادي، واستعداده للوقوف مع أمته في خندق واحد.
هناك شبه في العمق، لا في التفاصيل، بين شخصيتي «صلاح الموجي» و«سعيد مهران» في رائعة «نجيب محفوظ» «اللص والكلاب»، فكلاهما ضحية ظروفه، ونبله ظاهر رغم الظلال الكثيفة.
الأول، وجد نفسه في لحظة تضحية بالحياة من أجل الآخرين، بعضهم احتفى بالمعنى وبعضهم شهر به.
والثاني، غادر ماضيه منتسباً للمظلومين بقوة الأفكار، لكنه صدم بأن «رؤوف علوان» الذي أرشده إلى هداية الفكر والسلوك محض صحفي انتهازي ولص مستجد.
من هو «رؤوف علوان» في القصة الجديدة؟ باليقين فهو ليس رجلاً بعينه، وإنما هو نوع من التفكير ينتسب إلى العوالم المظلمة، التي لا تريد لهذا البلد أن يكشف عن قوته الكامنة، وأبطاله من الناس العاديين.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"