الركن الثالث في المعادلة التونسية

03:44 صباحا
قراءة 4 دقائق
فيصل جلول
تتفاعل في «العهد الديمقراطي» في تونس، أنشطة وأفكار تذكرنا بالفضاء السياسي اللبناني، حيث القول بلا قيد كابح وحيث يسود مهرجان سياسي دائم وبلا حدود، إلا تلك التي أرادها المعنيون إطاراً كما هي الحال في المؤتمر التأسيسي الأول ل «حركة الشعب التونسية» ذات التوجه العروبي والذي افتتح في العاصمة في الثاني من الشهر الجاري في قصر الرياضة بالمنزه، واستكمل أعماله في ال«حمامات» في سياق يبدو كلاسيكياً في العمل الحزبي لكنه يختلف هنا إذ يتصل بحركة قومية تعتبر تونس قاعدة لها والعالم العربي فضاءً واسعاً.
تحمل التفاصيل، معاني مهمة، ليس في خصائص الخطاب السياسي للحركة فحسب وإنما في ظروف وموقع ولحظة الحدث وبيئته، وهو ما تعكسه الملاحظات التالية:
لجهة الظروف، لا بد من لفت الانتباه إلى أن الإعلان عن التزام القومية العربية كنظرية في العمل السياسي، يحتاج بحد ذاته إلى شجاعة فائقة في أجواء سياسية عربية تنطوي على تسامح مع كل القوميات الجارة لنا والبعيدة عنا، وذم للقومية العربية، التي تجتث بصيغتها البعثية في العراق بقانون، وتستبدل بالتقاسم الطائفي والعرقي، أي بالنزول إلى ما دون الوطن والأمة الجامعة، وتستهدف في سوريا عبر الترويج لدساتير خالية من عبارة «سوريا دولة عربية» أو «جزء من الأمة العربية» و في كل أرجاء العالم العربي، حيث يرمى القوميون العرب بالوصف التركي «قومجي» والذي استخدم لتشنيع العرب ممن خرجوا على تركيا المهزومة في الحرب العالمية الأولى وقرروا رسم مصيرهم بأيديهم ووفق مصالحهم.
إن رمي العروبيين ب «القومجية» وأحياناً من إسطنبول التي تعلي القومية التركية، يضمر في أبسط معانيه حكماً سلبياً على العروبة، وهي من النقائص التي يفترض تجنبها. وإذ يهمل 7 آلاف تونسي في«قصر الرياضة» هذا الحكم القيمي ويشهرون قوميتهم وعروبتهم فهذا يعكس شجاعة ليست بديهية أبداً في وسط حزبي تونسي تتقدمه أيديولوجيات السوق الرأسمالية الرائجة والمغرية هذه الأيام. بكلام آخر لا بد من التحلي بقدر كبير من الشجاعة للتظاهر بالقومية العربية المناهضة للسوق وأيديولوجياته المتكيفة والتابعة والجذابة في الآن معاً، بما فيها السلفية التكتيكية والليبرالية التابعة بلا شروط واليسارية المطلبية المكتفية بالاعتراض والحديث عن المظلومية.
أما موقع الحدث فقد حرثته طويلاً الدعوة الفينيقية حتى صارت تونس عاصمة افتراضية لهذه الحضارة التي يزعم المؤرخون أنها انتشرت على شواطئ المتوسط في الألفية الثالثة قبل الميلاد وأنها مستمرة في عمقها وسيكولوجية ورثها التوانسة حتى الآن. وبما أن التونسي يعيش اليوم في فضاء صنعته الحضارة الغربية، فقد صار عليه أن يقابل بين حضارتين، الفينيقية القديمة والغربية الحديثة. أما الحضارة العربية الإسلامية فهي في عرف هذا النمط من التأريخ عابرة وغير جديرة بالتبني فما بالك حين يتم ربطها ظلماً ب «داعش» والإرهاب والقراءات الأيديولوجية المغلوطة للدين الإسلامي.
أن تتبنى حركة سياسية تونسية الهوية القومية العربية في هذا الموقع، وأن تتبنى الناصرية في صيغة محلية، وأن تنتظم في سياق تونسي طبعه قادة قوميون دفعوا حياتهم ثمناً لعروبتهم شأن صالح بن يوسف في عهد بورقيبة في الستينات وشكري بلعيد ومحمد البراهمي، الأمين العام الأول لحركة الشعب في السنوات الثلاث الماضية، فهذا يعني أن الأمر يتعدى النوستالوجيا إلى التعبير عن رفض الأوهام الأيديولوجية الفينيقية ومغريات أيديولوجيا الغرب التي يراد لها أن تكون مستقبل «المتخلفين» ومصيرهم المحتوم.
أما لحظة الحدث التونسية فإنها تنطوي على استقرار «الربيع العربي» في هذا البلد على مساومة سياسية بين التيار الديني والتيار الليبرالي وهوامشهما، ما كان لها أن تنبثق، لولا تكيف التيار الديني مع اقتصاد السوق وسلطته السياسية وممثليه في الدولة التونسية العميقة.
في اللحظة التونسية نفسها، يتمتع التيار القومي العربي التونسي بفرصة مهمة للضغط على المعادلة المذكورة عبر خطابه المحلي ولكن العابر للقطرية في آن معاً. بكلام آخر يرسي هذا التيار معادلة مثلثة الأبعاد عبر خطاب سياسي ينطوي على تصنيف لليبرالية بوصفها حمالة للتبعية و«لنظام ابن علي» الذي ثار عليه الشعب التونسي فإذا بأركانه يستأنفون الحكم بعد فشل التيار الديني وانهيار روافده في دول عربية مختلفة، ما يعني أن شرعية الثورة التونسية باتت أقرب إلى خطاب التيار الثالث القومي العربي الذي شارك في انتفاضة البوعزيزي واستشهد مؤسسه في سياق الانتفاضة التي صارت ثورة انتشر لهيبها في أنحاء العالم العربي.
هنا لا بد من الإشارة إلى أن حزب «نداء تونس» يسعى بالتحالف مع «النهضة» إلى إرساء ثنائية حزبية تشيع الاستقرار السياسي في تونس وتحميها من الإرهاب وتحفظ روابطها المصيرية مع السوق الرأسمالية وإلى تثبيت الحياة السياسية وتأطيرها بحيث يشرف على روافد السلطة وأروقتها ويصد الوصول إليها من الخارج بوسائل «ديمقراطية» ما يذكر ببعض التجارب الغربية ومن بينها التجربة البريطانية حيث الطريق إلى الحكم يمر عبر حزبين حصراً. لكن «عقب أخيل» هذا الثنائي يكمن في حداثة تكوينه وفي حاجته الماسة إلى الوقت كي يثبت أركانه.
في هذه اللحظة يضغط التيار القومي على اللعبة السياسية التونسية مستفيداً من عذريته السياسية إن جاز التعبير ومشروعه المستقبلي الواعد بمصير أفضل لتونس عبر الاتحاد المغاربي في سياق اتحاد عربي ديمقراطي وحر من كل تبعية.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"