قطار التسوية ومسلسل التنازلات

03:27 صباحا
قراءة 3 دقائق
نبيل سالم

على الرغم من أن بعض الفلسطينيين، لا سيما داخل حركة فتح، أبدوا حماساً لمشروع التسوية السلمية مع «الإسرائيليين»في إطار البحث عن حل لمعضلة القضية الفلسطينية ورفع المعاناة عن الشعب الفلسطيني، إلا أن عشرات السنين الماضية، لاسيما في العقود الثلاثة الأخيرة، أثبتت بالملموس استحالة التصالح مع المشروع «الإسرائيلي» العنصري مهما قدم الفلسطينيون من تنازلات، توصف أحيانا بالمؤلمة في سبيل السلام.
حتى أن أكثر المنادين بمشروع التسوية على أساس الدولتين، القائم على التنازل عن نحو ثمانين في المئة من أرض فلسطين التاريخية بات يدرك بعد أكثر من ربع قرن على اتفاق أوسلو أن هذا الأمر بات في مهب الريح، وأن مشروع التسوية بالشكل الذي تمّ به، لم يكن في الحقيقة أكثر من فخٍّ نصب لمنظمة التحرير الفلسطينية، بعناية ودقة، بهدف تحويل المنظمة من بيئة ثورية مناهضة للمشروع «الإسرائيلي» المدعوم غربياً وأمريكياً بشكل خاص، إلى منظومة مصالح، تدير كياناً وظيفياً سمي حسب «اتفاق أوسلو» بالسلطة الفلسطينية، والتي اعتقد البعض، أنها ستقود يوماً إلى حُلُم الدولة الفلسطينية المنشودة.
ففي الوقت الذي كانت القيادة الفلسطينية تعمل بجد لترجمة نصوص «اتفاق أوسلو» على الأرض رغم ما يحمله من تنازلات خطيرة كان الاحتلال «الإسرائيلي» يسعى بكل ما أوتي من قوة إلى تثبيت أركانه، وفرض وقائع على الأرض، لا تلغي فكرة الدولة الفلسطينية وحسب، وإنما تجعلها مستحيلة، لاسيما بعد توسيع وتكثيف سياسة الاستيطان «الإسرائيلي» التي بلغت أوجها بعد اتفاق أوسلو، حيث تم بناء العشرات من المستوطنات اليهودية في أنحاء الضفة الغربية المحتلة، ناهيك عن تنصل «إسرائيل» من معظم الالتزامات التي وقعت عليها في الاتفاق المذكور، الذي تحول فيما بعد إلى سلم استخدمته الطغمة العسكرية الحاكمة في «إسرائيل» للوصول إلى مصالحها، وفرض شروطها على الأرض، مستغلة العجز العربي، والصمت الدولي الرهيب أمام سياسة «الأبارتايد» التي ينتهجها الاحتلال في الأراضي الفلسطينية المحتلة، التي تم تحويلها إلى ما يشبه المعازل العنصرية، ولاسيما بعد بناء جدار الفصل العنصري في الأراضي الفلسطينية المحتلة.
ولذلك فإن الجري وراء فكرة الدولة الفلسطينية، الذي لم يتوقف منذ عقود بات يمثل أكبر عقبة في طريق التحرير والتخلص من نير الاحتلال، خاصة في ظل الخلل الكبير في ميزان القوى، والذي كان لتخلي قيادة منظمة التحرير عن فكرة العمل واللجوء إلى السياسة، وتقديم التنازلات الدور الأكبر فيه.
وإذا عدنا إلى بدايات الطرح التسووي للقضية الفلسطينية، ولاسيما في العقود الأخيرة، نستطيع التأكيد على أن فكرة الدولة لم تكن في الواقع سوى الطعم الذي قدم لمنظمة التحرير لابتلاع السم الذي صنّع لها بعناية.
صحيح أن من حق الشعب الفلسطيني أن يكون له دولة مستقلة، وأن يتخلص من نير الاحتلال، لكن التاريخ يثبت دائماً أن الاحتلالات الأجنبية لا يمكن التصالح معها، ولا يمكن التعامل معها إلا من خلال النضالات الوطنية، وأن هذه الاحتلالات لا تشبه إلا النيران، التي تحرق كل ما يقدم لها، بل وتطلب المزيد.
ولذلك فإن من الضروري القول، إن ما قدم لمنظمة التحرير الفلسطينية، على مسار سني المفاوضات لم يكن سوى عمليات خداع «إسرائيلية»، هدفها تشتيت الحراك الوطني الفلسطيني الثوري، وكسب الوقت، للوصول إلى هدف الاحتلال الخفي، وهو تضييع بوصلة العمل النضالي الفلسطيني، وعرقلة أو منع الثورات والانتفاضات الفلسطينية، بحجة التمهيد لمسيرة السلام.
فالدولة الفلسطينية ليست طرحاً جديداً كما يعتقد البعض، وإنما كانت الجزرة التي قدمها الاحتلال البريطاني للفلسطينيين قبل الاحتلال «الإسرائيلي»، وبالتحديد في أعقاب الثورة الفلسطينية الكبرى، كما ورد في كتاب ماكدونالد «الأبيض» الصادر في مايو/أيار 1939).
ودون الخوض في التفاصيل، فإن طرح القيادة الفلسطينية فكرة الدولة الفلسطينية، أو حتى فكرة الدولة الديمقراطية الواحدة التي طرحت في أواخر الستينيات من القرن الماضي على لسان قادة من منظمة التحرير يعني عملياً بدء مسلسل التنازلات الفلسطينية، والقبول ضمناً بالمستعمرين والمستوطنين «الإسرائيليين» باعتبارهم جزءًا من «شعب فلسطين»، وهو طرح رفضه «الإسرائيليون» لأنه يُنهي عملياً المشروع الصهيوني وفكرة الدولة اليهودية، التي يصرون على الوصول إليها، والتي يتحركون مؤخراً لفرضها كأمر واقع على الأرض بدعم أمريكي مباشر.
وعليه لا بد من القول: إنه آن الأوان لأن يراجع القائمون على المشروع الوطني الفلسطيني، ولاسيما من ينظرون حتى الآن بقوة للسلام مع «الإسرائيليين»، أن يستفيقوا من أحلامهم، وأن يقفوا وقفة مراجعة حقيقية وصادقة تجاه الحالة المزرية والكارثية التي وصلت إليها القضية الفلسطينية، في ظل المراهنات على تسويات مع الاحتلال «الإسرائيلي» العنصري، الذي يثبت كل يوم أنه مشروع استعماري خطير، لا ولم ولن يقبل السلام، لا يستهدف فلسطين وحدها، وإنما يستهدف المنطقة كلها.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"