واجامعتاه!

03:56 صباحا
قراءة 4 دقائق
جميل مطر

أكثر من مسؤول عربي كبير كان يضمر في نفسه نية الانضمام للجامعة استجابة لضغوط خارجية والبقاء فيها حتى يقوى ساعده فينقض هو عليها قبل أن تنقض هي عليه

جلست حائراً أمام خبر وُرد في مقال بصحيفة أجنبية، وللأمانة يجب أن أعترف بأن بعض الألم انتابني، وأنا أبحث عن تعليق مناسب. المقال يناقش متفائلاً تجارب التكامل الإقليمي، على الرغم من الوضع المحزن الذي تمر فيه التجربة الأوروبية، وقد فاته أن يأتي على وضع دافع لحزن أشد؛ وهو وضع الجامعة العربية. اكتشفت بعد قليل أن وراء تفاؤله، يوجد مشروع لتكامل جديد بين دول وسط آسيا، كلها، وأقصد دول وسط آسيا، وبدون استثناء عاشت طويلاً في ظل تكامل إجباري، فرضته عليها موسكو، إبان عهد الهيمنة السوفييتية. قرأت وتأملت وعلقتُ هامساً للصديقة التي أقنعتني بضرورة قراءة المقال، علقت هامساً، وأخشى أن أضيف إلى الهمس صفة السخرية، قلت لها بالعامية المصرية «كان غيرهم أشطر».

لم يكن تعليقي، أو لم أقصد به أن يكون حُكماً مسبقاً على تجربة تكاملية جديدة مهما كانت الأسباب، التي تدفع المسؤولين في هذه الدول نحو هكذا مشروع. إنما جاء في سياق إيمان شخص في حق نازعه فيه كثيرون، ومن عاطفة لم يسمح لأحد أن ينازعه فيها، حتى جاء يوم عز عليه فيه أن يستعد للاحتفال بعيد الجامعة العربية، فلم يجد ما يقوله مناسباً. كانت الجامعة مشروعه التكاملي الفريد في نوعه، باعتبار أنه المشروع الذي نشأ من دول رفضته وهي توقع عليه. تعلل بعضها بتحفظات وبعض هؤلاء تمسك بتحفظاته 75 عاماً. نعم، وقّعت على وثائقه وفي داخلها كره له. رأت بين سطوره وحشاً صغيراً سوف يكبر يوماً، ويخرج من سطور الميثاق؛ لينقض عليها، ويقضي على استقلالها الرضيع. أخال اليوم، وأنا أتألم لما صارت عليه حالة الجامعة أن أكثر من مسؤول عربي كبير كان يضمر في نفسه نية الانضمام للجامعة؛ استجابة لضغوط خارجية، والبقاء فيها حتى يقوى ساعده، فينقض هو عليها قبل أن تنقض هي عليه. هل كانت النوايا حقاً بهذا السوء أم أنني فشلت في عزل مشاعري عن لحظة كتابة هذه السطور. لا أنكر، ولن أنكر، أن التكامليين العرب، من أكاديميين وسياسيين ودبلوماسيين، حملوا في ضمائرهم نوايا ليست بعيدة جداً عن تهيؤات ومخاوف السياسيين، الذين وافقوا مترددين على نشأة الجامعة، والسياسيين الذين ورثوا الحكم منهم على امتداد الأعوام الخمسة والسبعين الماضية. نعم، كان الانتقاص من السيادة الوطنية هدف كل من تمنى أن يرى في حياته نجاح مشروع تكاملي عربي، مهما كان اتساعه وكُلفته ومجاله؛ لكنه الانتقاص الذي كان يمكن أن يحمي أمن الشعوب العربية، ويحقق لها الاستقرار، ويمنع عنها غائلة التطرف والطائفية وطمع الشقيق في ثروة شقيقه. فشل التكامليون العرب. لم يسمح لهم المسؤولون السياسيون بأن يخلصوا الشعوب من هذه الغائلة.

على كل حال لن يفيدنا البكاء على ما فات وضاع. فشلت تجربة التكامل العربي كما جسدتها الجامعة العربية، وأسباب الفشل معروفة، والكثير منها تعترف به الدول العربية المسؤولة ذاتها عن هذا الفشل. نخطئ من الآن فصاعداً إذا شجعنا خبراءنا وأنصار التكامل الإقليمي على الاستمرار في البحث عن حلول لصعوبات أو عقد في أنظمة الجامعة وأجهزتها وأشخاص القائمين عليها؛ لكننا نصيب، أو هذا ما أتمناه، لو شجعناهم على اختصار الطريق بالتركيز على محاولة تحديد موقعنا في عالم يجري تنظيمه في هدوء، وإن على نار ليست هادئة، أو على عضات فيروسات قادمة من المجهول. وأقترح مسائل بعينها:

أولاً: من نحن؟ الكل، وأقصد كل العالم، يهرول في السعي للتعرف إلى الآخرين، وبعضهم جدد لم يعيشوا بيننا، وهؤلاء الذين اقتربوا من حدودنا أو اخترقوها أو غيّروا معالمها. الأمريكيون لديهم مشكلة باقية معهم وعلى حدودهم وما خلفها بقية هذا القرن. آخرون يهرولون أيضاً في السعي؛ لتعريف أنفسهم للآخرين. البريطانيون يقدمون أنفسهم نموذجاً بارزاً، هذا الشعب الذي اعترف لشعوب أوروبا بأنه زيّف في أوراق طلب انضمامه للاتحاد الأوروبي، أو على الأقل لم يقل الحقيقة كاملة، لم يقل إنه لا يحب أوروبا، ولا يود أن يكون أوروبياً.الآن يردد بفرط الألم واليأس وخيبة الأمل الملايين من الإيطاليين والإسبان عبارة «لسنا بأوروبيين ولن نكون».

ثانياً: ننسى أننا، سواء كنا من صانعي الرأي أو من السياسيين، كدنا نفقد الحق في اتخاذ قرار في، أو حتى اقتراح عن، شكل المستقبل الذي نظن أو نعتقد جازمين أنه الأفضل لشعوبنا. نحن أقلية من كبار السن اخترنا لأنفسنا هذه المواقع النافذة والمؤثرة التي تصورنا أنها تؤهلنا لفعل ذلك. تجاهلنا أننا لسنا أكثر من أفراد معدودين في مجتمعات مكتظة بالشباب. بلغنا في هذه السنوات الأخيرة أن هؤلاء الشباب لا يشعرون بالسعادة بالنتائج التي تحققت وبالطموحات التي لم تتحقق على أيدي هؤلاء الأفراد، الذين تولوا بين ما تولوا مسؤولية تنفيذ تجربة تكاملية تعود على الأمة، خاصة الشباب بفوائد مؤكدة وآمال جديدة.

كعرب، وكتجربة تكاملية، نحن كشعوب وتجارب تكاملية كنا أو أصبحنا ضحايا العولمة، أو بمعنى أدق، ضحايا انكسارها. نلقي باللوم على السياسيين؛ لأنهم لم يراعوا تناسب التوقيت وسرعة التطورات. هم أيضاً معذورون، فقد غافلتهم العولمة، واختصرت في سنوات قليلة أعمار تطورات تاريخية، كان يمكن بدونها أن تستهلك عشرات السنين، وربما القرون.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي مصري سابق وكاتب متخصص بقضايا العلاقات الدولية. اشترك في تأسيس مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بمؤسسة الأهرام. وأنشأ في القاهرة المركز العربي لبحوث التنمية والمستقبل. عضو في مجلس تحرير جريدة الشروق المصرية ومشرف على صفحة الرأي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"