ثمرة الوعي التونسي

04:57 صباحا
قراءة 5 دقائق

لا يوجد اليوم من هو أسعد من التونسيين، كباراً وصغاراً، رجالاً ونساء . وهم يعبرون عن ذلك يومياً بعد عهود من الصمت والذل . فثورتهم شعبية، مدنية وديمقراطية، صنعها الناس ولم يسلطها عليهم أحد . ولم يكن مفاجئاً أبداً أن تحتشد الجموع في شارع بورقيبة أمام وزارة الداخلية، فلا توجد في تونس وزارة يكرهها الناس أكثر . ومن الطبيعي تماماً أن يطالبوا بتغيير إطاراتها، وخاصة العقلية السائدة فيها . ومن الطبيعي ألا يعطوا ثقتهم بسهولة لمن اقترن اسمه بالنظام السابق .

ولن يتم لهم ما يريدون إلا بتغيير النظام تغييراً هيكلياً، عبر إنهاء العمل بالدستور القديم ووضع دستور جديد، يفصل بين الدين والدولة، ويفصل بين السلطات، وينهي النظام الرئاسي ويعوضه بنظام برلماني منتخب . وكما في جميع الثورات المدنية، فإن المد الشعبي يتجاوز الساسة في حين يستمد قوته من ايديولوجية التحرر المنغرسة في الوعي، ويتوجب على النخبة بعد ذلك أن تفهم رسالة الشعب .

ما كان أحد ربما يتوقع أن يسقط ابن علي بهذه السرعة، ولكنه سقط فعلاً، وأصبح التونسيون على وعي تام بأنهم قادرون كلما أرادوا الضغط على الحكومة وتغيير واقعهم بأيديهم . وليس بالإمكان العودة إلى الوراء، لأن ما وقع يتجاوز أي إرادة فردية، أو حزبية، أو تكتل مجموعة مصلحية على حساب الشعب . ولقد سمعت البعض يحاولون التشكيك والحد من طموحات الناس وتطلعاتهم . ولن يكون هذا الأمر ممكناً لأن الثورة بالرغم من أنها فاجأت المراقبين، فقد كانت بذورها كامنة في الوعي والمجتمع . ولئن لم يكن بإمكان النخبة الحاكمة أن ترى ذلك فلأنها عمياء ومنجرفة وراء مصالحها الخاصة .

ولئن لم تكن الديمقراطية جاهزة، فبناؤها ممكن تماماً . وخلافاً لما قاله يوم 19 يناير/ كانون الثاني السفير الأمريكي ديفيد ماك على قناة الجزيرة، بإمكان تونس تغيير دستورها ونظامها، وإرساء قواعد جديدة للحكم . هذا ممكن لأن التجربة التاريخية موجودة، والتونسيون لن ينطلقوا من الصفر .

فالوعي لم ينزل عليهم من السماء . هناك جيل جديد في تونس يعرف تماماً أن البلاد أسهمت مساهمة كاملة في ما يسميه المؤرخون النهضة العربية منذ القرن التاسع عشر، وأنه عندما ساد الشعور بالضعف وقويت الرغبة في إصلاح جهاز الدولة إصلاحاً يسد المنافذ على الامتيازات الأجنبية، جاء الإعلان عن عهد الأمان (1857) ثم تبعه الدستور (1861) .

وبالرغم من محدودية ذلك الدستور الأول، فانظروا ما يقول عنه رائد الصحافة التونسية زين العابدين السنوسي في بدايات القرن الماضي، أي قبل الاستقلال: إن غرس النظام الديمقراطي بإقامة سيادة الأمة وتفريق السلطة ومسؤولية الحكومة لدى نواب الأمة قد بلغتها الأمة التونسية منذ 10 سبتمبر/ أيول ،1857 وأخذت بحقوق الإنسان عهداً لقبته (عهد الأمان) أقسم عليه الأمير محمد باي المشير الثاني . كما أعاد القسم عليه المشير الثالث محمد الصادق يوم ولايته، وختم على قانون النظام السياسي للدولة التونسية يوم 26 ابريل/ نيسان 1861 ( . . .) كان الدستور التونسي لعصرها هو أكمل الدساتير للدول وأمكنها في الديمقراطية التي ترد كل شيء إلى سيادة الأمة وتجعل الكلمة الأخيرة لمجلس النواب .

والحقيقة أنه بالرغم من إيجابية ذلك الإنجاز، فإنه من الصعب القول إن الشعب هو من فرضه . فقد كان ثمرة جهود النخبة السياسية في ذلك الوقت . ومن ثم، كان ممكناً تعليق العمل به، خاصة أن الاستعمار الفرنسي سيغزو تونس محركاً ثورة من نوع آخر .

ولا يمكن مقارنة أحداث تونس بأحداث العراق ولا إيران قبلها . فسقوط رأس الدولة في تونس لم يقع على خلفية غزو أجنبي، وإنما هو إرادة الشعب ووعيه الخاص . وليس ثمة ما يدعو إلى مقارنة ثورة تونس بثورة إيران . فليس هناك أي زعيم ديني أو سياسي أو عسكري قاد هذه الثورة أو وجهها من الخارج أو من الداخل . ومن ثم فليس هناك من يزعم أنه محركها أو أن الشعب مدين له بالإنقاذ والولاء .

الوعي السياسي الموجود حالياً في المجتمع المدني بإمكانه مقاومة كل حركة جذب إلى الوراء وكل تدخل أجنبي . وليس هذا الكلام أمنيات، وإنما هو قائم على التجربة والملاحظة . فهناك خط متصل بين الوعي الحالي وتشكل هوية سياسية للبلاد التونسية منذ القرن التاسع عشر، ومن خلال هذا التواصل حدثت تراكمات تدريجية وتفاعلات ثقافية وسياسية واجتماعية أدت إلى ما وقع يوم 14 يناير/ كانون الثاني .

وكيف يمكن للتونسيين أن يخشوا الحرية بعد أن أسقطوا طاغيتهم؟ كيف يمكنهم أن يرضوا بالاستعباد مجدداً وهم من أعطوا العالم الإسلامي منذ القرن التاسع عشر فكرة دستور وقانون وضعي، وأفكاراً كالتي كتبها خير الدين التونسي في أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك الصادر في 1867؟ وكيف يمكن نسيان أن تونس كانت مع مصر وتركيا تتقاسم الريادة في ميدان التحديث في الفترة السابقة للاستعمار؟ فكان خير الدين في تونس، ومحمد علي باشا في مصر، والسلطان محمود ومدحت باشا في تركيا العثمانية من الذين يعتقدون أن السبيل إلى نهضة المسلمين هو أخذهم بالتقنية والعلم .

وكتاب خير الدين أقوم المسالك هو إحدى الوثائق النادرة التي خطتها أقلام رجال الفكر والسياسة في القرن التاسع عشر في العالم الإسلامي . وهو بالطبع يذكر بالتغييرات الجذرية التي أحدثها محمد علي باشا في مصر، وما نتج عنها من حركة فكرية بدأها رفاعة الطهطاوي وتابعها جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وغيرهما، ويعيد إلى الأذهان التنظيمات الإصلاحية في الدولة العثمانية ومشاريع الدستور في تونس ابتداء من سنة 1857 .

وقد دافع خير الدين في كتابه عن الحرية، وهي في رأيه تنقسم إلى حرية شخصية وحرية سياسية . فيقول عن الأولى: هي إطلاق تصرف الإنسان في ذاته وكسبه مع أمنه على نفسه وعرضه وماله ومساواته لأبناء جنسه لدى الحكم، بحيث إن الإنسان لا يخشى هضيمة في ذاته ولا في سائر حقوقه ولا يحكم عليه بشيء لا تقتضيه قوانين البلاد المتقررة لدى المجلس . وبالجملة، فالقوانين تقيد الرعاة كما تقيد الرعية . ويقول خير الدين عن الحرية السياسية: وهي تطلب الرعايا التداخل في السياسات الملكية والمباحثة فيما هو الأصلح للملكة ( . . .) على نحو ما أشير إليه بقول الخليفة الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (من رأى منكم فيّ اعوجاجاً فليقومه . .) .

فهل يعتقد أحد أن الشباب والنساء والرجال الذين خرجوا إلى الشوارع منشدين إذا الشعب يوماً أراد الحياة . . فعلوا ذلك بالمصادفة؟ ألم يسبق ذلك استبطان هذه الايديولوجية التحررية التي تشكلت على امتداد الأجيال وشكلت الوعي التونسي ضمن عملية الجمعنة التي تبدأ منذ الطفولة؟ وهل بإمكان أحد الآن اجتثاثها من العقول أو ترهيب التونسيين؟

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"