على إيقاع الوطن

14:17 مساء
قراءة 4 دقائق
تسمع بعضهم يأخذ على العرب غناءهم كثيراً للأوطان، فهم يمتدحونها ويتغنون بجمالها وبكل إنجاز على أرضها؛ وهؤلاء في كلامهم قدر من الصواب، وقدر من الخطأ.

«أهل المغنى» في دولنا العربية يدركون أن للأغنية دورها الذي يجب أن تلعبه، لأنها من الوسائل الفنية التي تملك سحراً قادراً على التأثير مباشرة في الناس. من هنا يسرعون إلى مواكبة كل حدث مهم في بلدهم، بتقديم أغنية نطلق عليها «الأغنية الوطنية». ولولا التسرع و«الاستخفاف» بقيمة الكلمة وأهميتها، والحرص على الابتكار والإبداع، بعيداً عن استهلاك المستهلَك وتكرار الموجود منذ سنوات طويلة، لجاءت كل الأغاني «الوطنية» على مستوى المأمول منها، ولتمكنت من أن تصبح خالدة نسترجعها في كل مناسبة.
جيد أن نغني للوطن، فنحن جزء منه، والكلمات تعبّر عن جزء من حياتنا فيه. ومن الطبيعي أن ترتبط أي أغنية بمناسبة، فهي يجب أن تُبنى على قصة ما، تحمل المعاني الإنسانية أولاً وأخيراً، وتعبّر عن الناس، وإلا فلن تجد من يسمعها أو يطلبها. أغاني المناسبات الرسمية، والتي نطلق عليها لقب «الوطنية»، لا نسمعها إلا في المحن أو في أفراح الوطن، وكأننا نُلبسها زياً عسكرياً، ونطلقها حين يدقّ النفير، أو نُلبسها زيّ الفرح لنهلل لانتصار وإنجاز كبير.
حب الوطن والتغني به وتذكير الناس بكل مميّزاته وجماله، لا يحتاج إلى مناسبة ولا يرتبط بحدث فقط؛ هو كلمة في حق الأرض التي نعيش عليها، والهوية التي نحملها. رسالة حب وامتنان أو غضب وحزن، تحكي أحوال الناس وترسم صوراً وتقول رأياً وتتخذ موقفاً. تؤدي الأغنية الجميلة الراقية المصنوعة بحرفية عالية دوراً كبيراً في تقريب المسافات بين أهل البلد الواحد، وبين المغتربين ووطنهم، وتجمّل البلد في عيون الأغراب.
ما قيمة الأغنية إن كانت مجرد كلمات منمّقة متبرّجة بشكل فجّ، مرصوصة ليردّدها مغنٍّ بنغمات مسروقة من نشيد عسكري أو لحن مكرر؟ ما قيمة الأعمال التي تخرج فقط لتواكب حدثاً ما، ومع غروب الشمس تغرب عن آذان المستمعين دون أن تترك أي أثر؟
الأغنية الوطنية ليست «زفّة» ولا مغالاة ومجاملات وتجارة باسم الوطن؛ فيروز غنت وكانت المناسبة الوحيدة «حب الوطن»: «ردّني إلى بلادي»، «حكيلي حكيلي عن بلدي حكيلي»، «بحبّك يا لبنان».. هل انتظرت حدثاً رسمياً كي تقول تلك الكلمات التي نرددها في كل وقت؟ غيرها كثُر غنوا بلا مناسبات أيضاً وفي كل بلد عربي، فليس شرطاً أن تكون الأغنية مفصّلة على مقاس الحدث، بل بإمكانها أن تصنع من حياة الناس حكاية تصلح لأغنية. أغاني سيد درويش بعضها كان عن الهوى، وبعضها الآخر كان موجهاً مباشرة لتمجيد الجيش وشحذ الهمم في الحرب، بينما هناك مجموعة من الأغنيات «الوطنية» أيضاً ترسم أجمل صور عن مصر ومغنّون آخرون غنوها من بعده مثل: «الحلوة دي»، و«سالمة يا سلامة»، و«أنا المصري» التي لحنها درويش وغناها، وهي من كلمات بيرم التونسي.
ما أجمل الكلام عن الوطن ووصفه شعراً! والقصيدة هي أهم عنصر في هذه الأغاني. لا بأس إن كان الكلام نثراً لا شعراً، وبالعامية لا بالفصحى، إنما المهم أن يحمل معنى ولا يكون مجرد كلمات مرصوصة تشبه كل الكلمات العادية والمكررة، واللحن زحمة نغمات ليس أكثر.
الأغنية يجب أن تعبّر عن الوطن بلا أحداث، وبطبيعة الأحوال خلال الأحداث. هي ليست نشيداً عسكرياً، ولكنها مشاعر الشعب ونبضه، وهي تحكي عن الحياة والأماكن. لا وقت لها، ويجب ألّا ينتظر الكاتب والملحن والمنتج والمغني حدثاً ضخماً أو مناسبة عامة، كي يقدم عملاً فنياً جميلاً يردده الناس دائماً، دون أن تمارس القنوات والإذاعات عملية حشد تصبّ فيها كل الغناء القديم والحديث.
أغنية حزينة، وأخرى هادئة وأخرى إيقاعها راقص.. كلها يمكنها أن تؤدي المهمة وتكون وطنية بامتياز، ومعيار نجاحها هو قدرة المستمع على حفظها وترديدها باستمرار.
حسين الجسمي غنى لوطنه الإمارات، وعرف الانتشار الأوسع عربياً وعالمياً أيضاً، لأنه لم يحصر نفسه بعمل تجاري، بل غنى بأداء صادق أغاني تمسّ كل مواطن عربي، ونال الجوائز والتكريم وآخرها وسام من العاهل المغربي. أغنيته «بشرة خير»، تصف مصر وشوارعها ومناطقها وأبناءها، جعلت العالم كله يرقص على إيقاعها ويردد كلماتها. هي وطنية، كانت تدعو إلى الانتخابات، فأصبحت أغنية كل الناس ولكل وقت. ألم تحقق الهدف وأكثر؟ ألم يجتمع على حبها الناس ورددوا معها اسم مصر وحفظوا كل شبر فيها، وأحبوا جمالها وكأنهم زاروها وتنقلوا بين مناطقها وأحيائها؟
نجاح الأغنية يبدأ من نقطة مهمة: الهدف. فإذا كان المراد ركوب الموجة والتهليل في كل مناسبة رسمية، والغناء لإثبات الوجود واستغلال الظروف، عندها يكتب الفشل للأغنية أياً كان من يؤديها. وإذا كان الهدف تجارياً فهي مولودة ميتة. وما أكثر الأغاني الفاشلة و«الميتة».
الأغنية إحساس، فرحة، انتصار، جمال، ملامح ترسم الوطن وتحكي عن ناسه. هي كلمة الناس وروحهم، وكلمة الحق على إيقاع الوطن.

مارلين سلوم

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتبة وناقدة سينمائية. حاصلة على إجازة في الإعلام من كلية الإعلام والتوثيق في الجامعة اللبنانية. ساهمت في إصدار ملحق "دنيا" لجريدة الاتحاد ومن ثم توليت مسؤولية إصدار ملحق "فضائيات وفنون" لصحيفة الخليج عام 2002 فضلا عن كتابتها النقدية الاجتماعية والثقافية والفنية. وشاركت كعضو لجنة تحكيم في مهرجان العين السينمائي في دورته الأولى عام ٢٠١٩

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"