«أم المفاجآت» الفرنسية

03:38 صباحا
قراءة 4 دقائق
فيصل جلول
ثأرت استطلاعات الرأي لنفسها في الدورة الأولى من الانتخابات الرئاسية في فرنسا، إذ طابقت توقعاتها النتائج التي خرجت من صناديق الاقتراع. بل يمكن القول إن هامش الخطأ في تقديرات ما قبل الاقتراع، لم يتجاوز الواحد في المئة، وهذا يعني أن الجهد المبذول في سبر اتجاهات التصويت كان علمياً إلى أقصى درجات الالتزام، وغابت عن المستطلعين الأهواء، أو محاولات رفع أسهم مرشح على حساب آخر.
وإذا كانت النتائج قد صدقت بالنسبة للهرمية المرسومة في الاستطلاعات، وبالتالي التنبؤ بأن يكون الفائز الأول هو ايمانويل ماكرون، والثاني مارين لوبن، فإنها صدقت أيضاً بالنسبة للخاسرين الثلاثة الكبار، فرانسوا فيون الذي حصل على أكثر بقليل من 19 في المئة، وجان لوك ميلونشون الذي حصل على النسبة نفسها تقريباً، تلاه بنوا هامون بعيداً بأقل من 7 في المئة كما توقعت معظم مؤسسات الاستطلاع.
لم تكن مفاجأة الاستطلاعات هي الوحيدة في حملة الرئاسيات الفرنسية، فقد حقق الرابح الأول في الدور الأول المفاجأة الأكبر، فماكرون يمكن أن يكون بعد أسبوعين أصغر رئيس فرنسي في تاريخ الجمهورية، ونظيراً للرئيس الأمريكي الراحل جون كيندي سناً وحيوية، دون أن يكون متمتعاً بخبرة سياسية طويلة أو منتخباً من أية جهة. والمناصب الوحيدة التي تولاها كانت قبل أربع سنوات بمبادرة من الرئيس الحالي فرانسوا هولاند، وأعلاها وزارة الاقتصاد التي أدارها ماكرون لأقل من سنتين لم يتمتع خلالها بأية شعبية أو تعاطف من طرف زملائه.
عندما قرر ماكرون أن يرشح نفسه للرئاسة قبل سنة، ما كان أحد يحمله على محمل الجد. لكن سرعان ما اكتسبت حركته «إلى الأمام» حضوراً قوياً إذ التحق بها خلال شهور قليلة أكثر من مئتي ألف منتسب، ثم كرت سبحة التأييد والانتساب إلى برنامجه الرئاسي وبخاصة من زعيم «تيارالوسط» فرانسوا بايرو، ومن ثم من أطراف عديدة أبرزها وزير الدفاع في حكومة الرئيس هولاند جون ايف لودريان ومن مانويل فالس رئيس الحكومة السابق، ومن الرئيس الفرنسي نفسه.
فوز ماكرون بالدورة الأولى للانتخابات الرئاسية والراجح برئاسة الجمهورية في الدورة الثانية من الاقتراع هو المفاجأة الكبرى بكل المقاييس، لكنها ليست الوحيدة، فقد كرَّس فوزه تهميش اليسار واليمين التقليديين بل يمكن القول إنه سدد لكمة قوية للثنائية الحزبية في فرنسا، إذ أخرج الطرفان من السباق الرئاسي بقدر كبير من الإهانة.
الإهانة الكبرى أصابت الحزب الاشتراكي الحاكم حين فضل رئيس الجمهورية تأييد صديقه وخليفته غير الاشتراكي، على مرشح الحزب الرسمي بنوا هامون، وانفراط عقد قيادات الحزب من حوله، الأمر الذي أخرج الحزب من السباق، وقد يؤدي إلى أزمة داخلية لا نعرف كل نتائجها بعد، خصوصاً أن مؤيدي ماكرون الاشتراكيين سيطالبون بحصص في كتلته النيابية المقبلة مع احتفاظهم ببطاقات الانتساب إلى الاشتراكي الأمر الذي سيخلق اضطراباً قد لايخرج منه الحزب سالماً.
والإهانة الأشد مضاضة ضربت التيار الديغولي التقليدي، الذي مثله فرانسوا فيون، الخارج منتصراً بمفاجأة كبيرة من تمهيديات الحزب السابقة على الاقتراع، فقد دفع إلى الهامش وجوهاً حزبية عريقة شأن الرئيس السابق نيقولا ساركوزي، ورئيس الوزراء الأسبق آلان جوبيه وآخرين، علماً أن استطلاعات الرأي كانت تعطي الأفضلية لجوبيه على غيره لمدة سنتين، إلى حد أن جوبيه نفسه بدأ يتصرف وكأنه رئيس جمهورية فرنسا المقبل، فإذا بفيون يحدث مفاجأة صاعقة ويفوز بالتمهيديات ومن ثم تجتمع حوله المؤشرات بوصفه رئيس البلاد المقبل، سوى أن هذا الحلم تحول إلى كابوس من بعد ما نشرت صحيفة «لوكنار اونشينيه» الأسبوعية الساخرة تفاصيل فضيحة فساد تورط فيها وزوجته، أدت من بعد إلى زعزعة حملته وحجمت فرصه بالفوز وأخيراً الخسارة.
هذه الخسارة المهينة وصفها أحد قادة اليمين الكلاسيكي بقوله، إن فرصة الرئاسة كانت متاحة لليمين بعد ولاية اشتراكية سيئة بكل المقاييس، فاذا بفيون يبددها. وأضاف آخر بالقول «حصلنا على ضربة جزاء وكنا أمام مرمى فارغ لا حارس فيه لكننا أطلقنا الضربة خارج المرمى وخسرنا».
لم يتهرب فيون من تحمل نتائج الخسارة منفرداً، لكن ذلك ما عاد كافياً لإنقاذ الحزب الذي قرر أن يصفي حساب هذه الهزيمة في مؤسساته الداخلية من دون أن نعرف ما إذا كانت هذه المهمة ممكنة دون آثار سلبية في وحدة الديغوليين ومستقبلهم.
أما فوز مارين لوبن فقد شكل نصف مفاجأة وهي التي خسرت الرهان عام 2012 تعود اليوم للتنافس على السلطة في فرنسا بعد تشريع حزبها،وتهميش والدها ذي السمعة العنصرية المتطرفة وبعد أن تمكنت من القيام بجولات خارجية استقبلت خلالها بوصفها رئيسة محتملة لبلد يتمتع بعضوية دائمة في مجلس الأمن.
مفاجأة لوبن تقف عند هذه الحدود، إذ من الصعب أن تتجاوز الدورة الثانية، بسبب تقليد جمهوري فرنسي عريق يقضي بأن تجتمع أحزاب اليمين واليسار والوسط ضد مرشح اليمين المتطرف، لمنعه من تولي السلطة. حصل هذا مع والدها جان ماري لوبن عام 2002 وسيحصل معها بعد أسبوعين، وهذا لا يحتاج إلى استطلاعات رأي أو إلى جهود خارقة بل إلى تمرين حسابي هو أقرب إلى اليقين منه إلى التوقع...
تبقى المفاجأة الأهم بعد الرئاسة حيث من المنتظر أن يضع ماكرون بلاده على منعطف ليبرالي غير مسبوق.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"