مشكلة النموذج في مشروع النهضة العربية

03:50 صباحا
قراءة 4 دقائق
فيصل جلول
«بين تشاؤم العقل وتفاؤل الإرادة» كان عنواناً لنقاش جدي في جنيف الأسبوع الماضي، خلال ندوة نظمها الدكتور هيثم مناع رئيس الفرع العربي ل «المعهد الإسكندنافي لحقوق الإنسان» تكريماً للراحل حسين العودات، المثقف التقدمي والنهضوي والناشر المعروف.
السؤال الأهم الذي يشغل عدداً من المهتمين بهذه المسألة هو «هل ننهض نحن العرب وفق النموذج الأوروبي؟ وهل نهضت أمة أصلاً وفق نموذج محدد أو خريطة طريق مرسومة بدقة سلفاً؟ بكلام آخر هل يمكن أن تنهض أمة استناداً إلى سيرورة أو خطة مرسومة على غرار عناصر المشروع النهضوي الذي وضعه مركز دراسات الوحدة العربية قبل سنوات قليلة؟ أو هل يمكن النهوض على قياس خريطة الطريق البعثية التقليدية المستمدة من تجارب أوروبية؟ وهل يمكن النهوض وفق خرائط طريق أخرى ليبرالية وماركسية واشتراكية؟
الجواب الأقرب إلى واقع الحال، أن «النمذجة» في موضوع النهضة، لا تنطوي على وعد جدي بإنجاز هذه المهمة التاريخية، على الرغم من خصائصها الجذابة والمغرية بل البديهية كما هي الحال مع عناصر المشروع النهضوي التي يطرحها مركز دراسات الوحدة العربية وفي طليعتها: التجدد الحضاري والديمقراطية والوحدة والتنمية المستقلة والعدالة الاجتماعية والاستقلال الوطني... الخ.
بعض المفكرين النهضويين يذهب إلى أبعد من العناصر المذكورة بمسافات، إذ يرى أن لا نهضة مع الدين كما هي الحال مع المفكر السوري صادق جلال العظم في كتابه «نقد الفكر الديني»، والبعض الآخر يرى أن لا نهضة إلا عبر تهديم بنى المجتمع التقليدي العربي كما ينسب إلى المفكر والشاعر الشامي أدونيس، وربما يشترك كثيرون مع أدونيس في هذا التقدير ممن ينشطون في التيار الماركسي أو العلماني الراديكالي.
المتفق عليه أن أفكار النهضة جاءتنا من التجربة المركزية الأوروبية، وقد صرفنا قرناً أو أكثر في تداولها والبحث في كيفية تطبيقها، ومع ذلك لم تتحول هذه الأفكار إلى قوة مادية جديرة بنقل العرب من حال التخلف إلى حال التقدم، أي من حال التبعية إلى حال الشراكة الندية مع الأمم السيدة في هذا العالم.

أغلب الظن أننا قرأنا التجربة النهضوية الأوروبية، أو أنها استقرت عندنا وفق التصور المتداول أو المراد، أو جاءتنا في تضاعيف التبعية التي تملي اعتماد التابع أفكار المتبوع وطريقة تفكيره ونمط حياته.

إن القول بأن لا نهضة مع الدين يتناقض مع التجربة النهضوية الأوروبية نفسها، التي انطلقت من الكنيسة الكاثوليكية في إيطاليا في القرن الرابع عشر لتصطدم من بعد مع الكنيسة في مراحل وقرون لاحقة. لقد تمكنت الكنيسة الكاثوليكية في إسبانيا من مصادرة العلوم العربية المتطورة في الأندلس بعد سقوطها وعملت من بعد على نشرها والإفادة منها والبناء عليها، مع الإشارة هنا إلى أن الكنيسة كانت في القرون الوسطى تحتكر المعارف والتعليم وتضبطها تحت سقف الدين.
والجدير ذكره أن الكنيسة الكاثوليكية لعبت دوراً نهضوياً مميزاً بعد سقوط القسطنطينية، وبالتالي سقوط التنافس العالمي بين الكنيستين، وتحول قسم مهم من النخبة البيزنطية إلى روما الأمر الذي سيؤدي من بعد إلى المركزية الأوروبية المستمرة حتى يومنا هذا.

أما القول أن لا نهضة بدون وحدة فهو يتناقض أيضاً مع المثال الأوروبي الذي يفيدنا بأن النهضة بدأت من فلورنسا وانتقلت من بعد إلى باقي المواقع الأوروبية وقد ساهمت أسرة ميديتشي الإيطالية مساهمة كبيرة فيها، فضلاً عن الاكتشافات الجغرافية التي انطلقت من أوروبا إلى أمريكا والتي لعبت دوراً تاريخياً في النهضة الأوروبية. والجدير ذكره في هذا السياق أن الوحدة الأوروبية ما زالت غير ناجزة بعد وهي أبعد ما يكون عن الوحدة الاندماجية التي يراد لها أن تكون سبباً في نهضة الأمة العربية.

وإذ توضع التنمية المستقلة كشرط نهضوي حاسم فهذا أيضاً لا يتناسب مع أمثلة نهضوية أخرى ومنها المثال الكوري الجنوبي الذي نقل هذا الجزء من كوريا من حال إلى حال خلال أقل من نصف قرن في ظل تبعية مطلقة للولايات المتحدة التي ما زالت حتى يومنا هذا تحتفظ بقواعد عسكرية في هذا البلد.

وإذ يجري الحديث عن استحالة النهوض بعد هزيمة عسكرية ساحقة إلا بعد انتصار عسكري يغسل الهزيمة، فإنه قول صائب وخاطئ الآن معاً، فهو صائب إن تمكن الطرف المهزوم من تحقيق الانتصار على عدوه والثأر لهزيمته وهو قول خاطئ، لأن المثال الياباني النهضوي يطيح به تماماً. فقد حقق هذا البلد نهضة لامعة بعد هزيمته الساحقة في الحرب العالمية الثانية ولم تتم نهضته بعد انتصار عسكري على الولايات المتحدة.
وإذا كان صحيحاً أن النهضة اليابانية قد بدأت قبل الهزيمة العسكرية، فالصحيح أيضاً أن الهزيمة محقت كل ما صنعه هذا البلد الذي وصل إلى حافة الجوع بعد الحرب العالمية الثانية الأمر الذي يستدعي استخلاص درس آخر من تجربته يقوم على صلابة الهوية التي منحت اليابانيين قدرة العثور دائماً على حلول مشرفة لمشاكلهم الصعبة.
أما الإشارة إلى شرط الديمقراطية لقيام النهضة العربية فهو يتناقض مع المثال الأوروبي لأن النهضة الأوروبية تمت في العصور الأوروبية الوسطى ولا صلة لها بالديمقراطية التي يمكن اعتبارها البنت الشرعية للسوق الرأسمالية التي استقرت في أوروبا وأصبحت من بعد قوة عالمية كاسحة وقاهرة لكل النظم والتشكيلات السياسية والاجتماعية التي تعترض سبيلها في مختلف أنحاء العالم.
إن القياس العربي على النهضة الأوروبية لم يفضِ إلى نهضة عربية بل إلى درس حاسم مفاده أن النمذجة قد تكون أحياناً سبباً في كبح النهوض في معرض البحث عنه.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"