غزة وأعباء القضية

03:41 صباحا
قراءة 3 دقائق
إلياس سحاب

مر حتى الآن واحد وسبعون عاماً على القضية الفلسطينية بإتمام اغتصاب معظم أجزاء فلسطين العربية في العام 1948، وتهجير ثلاثة أرباع شعبها العربي، واثنان وخمسون عاماً على استكمال اغتصاب بقية أجزاء فلسطين العربية في العام 1967.
كل لحظة في هذه السنوات كانت لحظة حرجة بكل ما في ذلك من معنى. ومع ذلك، فإن اللحظات السياسية التي نمر بها في أواسط هذا العام تبدو الأشد حرجاً، لأنها تقترب بنا من لحظة اكتمال المؤامرة الكبرى التي بدأها المجتمع الدولي ضد الأمة العربية جمعاء، وليس عرب فلسطين وحدهم، بقرب الإعلان عن مشروع دولي تم وضعه بين واشنطن والحركة الصهيونية، بهدف التصفية النهائية والشاملة لهذه القضية على أساس إلغاء كل الحقوق التاريخية المشروعة لعرب فلسطين، في العودة إلى وطنهم واستعادته، وممارسة كل حقوقهم السياسية والقانونية المشروعة فوق كامل ترابه التاريخي.
وتشاء الظروف التاريخية أن تقترب هذه اللحظة الحرجة علينا، وقطاع غزة الفلسطيني وأهله الذين يقارب عددهم المليون ونصف المليون، يتحملون وحدهم سائر أعباء القضية، في قطاع صغير وضيق من فلسطين التاريخية، وهم محاصرون حصاراً خانقاً ومحكماً من كل الجهات شمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً، في سائر نواحي حياتهم في الغذاء والدواء والكهرباء والصيد والتنقل الحر والسفر الحر.
فلولا حالة الاشتباكات المتكررة بين هذا القطاع المحاصر الشجاع، وبين دولة الاحتلال، لبدت القضية، بعد سنوات طويلة خلت، كأنها قضية انتهى أمرها إلى انتصار كامل لمشروع اغتصاب فلسطين وشعبها.
وما أكثر المشاهد التي أصبحت تمر علينا معبرة عن الأعباء التي أصبح القطاع وأهله وكأنهم يتحملونها وحدهم، منذ سنوات، عن سائر أبناء شعب فلسطين الذين تجاوز تعدادهم الثلاثة عشر مليوناً، على أرض الوطن المحتل، وفي جميع بقاع الشتات العربي والدولي، وعن سائر مئات ملايين العرب الباقين، القريبين جغرافياً من فلسطين المحتلة والبعيدين عنها.
لقد أصبحت الأيام العربية كلها مليئة أكثر من اللزوم بعدد من الأحداث والمشاهد التي تروي، بالشهادة الحية، الفظائع اللامحدودة التي يحملها أهل قطاع غزة على أكتافهم وحدهم عن مئات ملايين العرب والفلسطينيين. لكن أكثر هذه المشاهد تأثيراً في النفس ليس فقط ما يتعلق بحجم الفظائع والأهوال، بل أيضاً بالقدرة الأسطورية التي أصبح يتمتع بها أهلنا في قطاع غزة على تحمل كل هذه الأهوال، مع شهية لا حدود لها لمواصلة الحياة، على أساس أن النصر مؤكد، وأنه قريب أكثر مما يتصور أكثر المتشائمين.
من أكثر هذه المشاهد تأثيراً مشهد لمباراة في غزة لفريقين في كرة القدم، جميع أعضاء الفريقين، من مبتوري الأقدام بسلاح العدوان «الإسرائيلي» المتوحش والمتواصل في الأسابيع المتكررة لمسيرات العودة الجماهيرية، التي لم تتوقف أسبوعاً واحداً منذ انطلاقها.
كل فرد من فريقي كرة القدم كان يلعب بقدم واحدة وساق واحدة، ويعتمد في الجهة الأخرى على عكاز اصطناعي، يساعده على القفز والتقدم والتأخر، كأنه يمارس الحركات المطلوبة من الإنسان العادي الذي يعتمد على قدمين طبيعيتين.
هذا المشهد الذي لا حدود فيه لقوة التعبير عن مواصلة الحياة الطبيعية، حتى لحظة الحصول على كل الحقوق الطبيعية لهذا الشعب، بما في ذلك حق العودة الكامل إلى كامل أرض وطنه التاريخية، وممارسة كافة حقوقه الإنسانية والسياسية عليها، كسائر شعوب هذا العالم، هذا المشهد يستحق من كل أجهزة الإعلام في كل أرجاء الوطن العربي، ابتداء بالأجهزة الفلسطينية، تعميم عرضه على سائر تلفزيونات العالم.
إن المشروع الأمريكي الذي قررت إدارة ترامب طرحه الشهر المقبل، والذي يستهدف تصفية القضية الفلسطينية، سيصطدم بجدار المستحيل الفلسطيني، ورأس حربة هذا المستحيل متمثلة بالصمود الأسطوري لأهلنا في قطاع غزة، وإخوانهم في الضفة الغربية. وإن كان التعبير في قطاع غزة يأخذ طابعاً أكثر مأساوية وأعلى صوتاً.
يا أيها الأشقاء العرب، إن قضية فلسطين عموماً، وقضية قطاع غزة الذي أصبح يعيش حالة مأساوية لا حدود لها، تستحقان منا نحن العرب أكثر من مجرد دعم معنوي. فلا يعقل أمام هذه المشاهد المأساوية التي أصبحت طابعاً يومياً للحياة في قطاع غزة، أن تبقى لمجرد الفرجة من بعيد، وكأن شيئاً لا يعنينا.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"