فصل في «الاستهبال» الديمقراطي

02:28 صباحا
قراءة 4 دقائق
فيصل جلول
تتعرض الديمقراطيات الغربية لموجة من «الاستهبال» الديمقراطي، إن جاز القول، غير مسبوقة، من الصعب تشخيص كل أسبابها بدقة، لكن مؤشرها الأبرز هو انجذاب مجموعات معتبرة من الرأي العام لوعود مغرية، أو خيالية، أو غير معقولة البتة. ففي بريطانيا قال أحد المرشحين لناخبيه ممازحاً إنه إذا فاز في الانتخابات فسيعمل على توفير الشروط لكي يشتري كل واحد منهم أحدث موديل من سيارة «بي إم دوبليو» الألمانية.
وفي فرنسا وعد «بنوا هامون»، مرشح الحزب الاشتراكي للتمهيديات الرئاسية، بإعطاء راتب قدره 600 يورو شهرياً لكل مواطن، بغض النظر عن دخله، وأنه سيعطي كل شاب بين الثامنة عشرة والخامسة والعشرين، راتباً شهرياً يصل إلى 750 يورو. فكان أن فاز في التمهيديات بترشيح حزبه للرئاسيات الفرنسية في الربيع المقبل. من دون أن يشرح للناخبين كيفية تغطية التكلفة المالية الباهظة لهذا الإجراء. وكان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وعد ناخبيه الخائفين من إرهاب «داعش»، بمنع دخول كل المسلمين إلى الولايات المتحدة، وكان لكلامه وقع ساحر، فإذا كان الإرهاب يأتي من هذه الفئة من الناس فإن منع أصحابه من الدخول إلى الأراضي الأمريكية يعني صفر إرهاب، حتى ولو كان عدد الممنوعين المفترضين يتجاوز المليار وربع المليار. وبما أن مشكلة الهجرة المكسيكية غير الشرعية إلى الولايات المتحدة، تمثل كابوساً لقسم واسع من الناخبين، فقد وعد ترامب بنصب جدار فاصل بين الحدود الأمريكية - المكسيكية. ومعلوم أن تعديلات قد طرأت على الوعد الأول، حيث منع مواطنون من 7 بلدان مسلمة فقط، من دخول الولايات المتحدة، وجاء المنع بصيغة مؤقتة، ولا نعرف بعد مصير الجدار.
ويقع الوعد الانتخابي الجذاب أحياناً بصورة حصرية على فئة واحدة من الناخبين، شأن الوعد الذي اطلقه بنوا هامون في التمهيديات، إذ أكد على وجوب السماح بتجارة حشيشة الكيف في فرنسا قانونياً، وتلك بشرى سارة «للمحششين» الفرنسيين، ولزوار بلادهم الكثر. ويقدر حجم هذه التجارة بمئات الملايين من اليوروهات، إن لم يكن أكثر بكثير، ويمكننا العثور على وعود من هذا القبيل في بلدان ديمقراطية أخرى لو أردنا الإحاطة بهذه الظاهرة من كل أبوابها.
ثمة تزامن بين هذه الوعود «الديماغوجية» وشيخوخة «الاستبلشمانت» في العديد من الدول الغربية. ففي فرنسا نجح فرانسوا فيون في تمهيديات اليمين المعتدل لأن الناخبين ما كانوا راغبين في التجديد ل«نيكولا ساركوزي»، ورفعوا شعارهم الشهير «أياً كان» أفضل من ساركوزي، وانطبق الأمر على المرشح الديغولي الآن جوبيه الذي ينتمي إلى «الاستبلشمانت». ووقع ما يشبه ذلك في الحزب الاشتراكي، الذي تراجع زعيمه فرانسوا هولاند عن الترشح بعد فشله الذريع في الحكم على كل صعيد، وهزم وزيره الأول مانويل فالس في الدورة الثانية لتمهيديات اليسار، لأنه هو الآخر ينتمي إلى «الاستبلشمانت» فقد عمل في وزارات سابقة وتولى رئاسة الوزراء في عهد هولاند الجاري.
الغضب ضد «الاستبلشمات» عايناه أيضاً في بريطانيا، التي خرجت من الاتحاد الأوروبي ضد رغبة الدولة العميقة، وفي الولايات المتحدة أيضاً، حيث فاز ترامب على الضد من رغبة وسائل الإعلام والحزب الجمهوري، وكان يمكن لبرني ساندرز أن يفوز هو الآخر ضد بيروقراطية الحزب الديمقراطي. وكاد اليمين المتطرف النمساوي يفوز بالرئاسة في فيينا. وليس من المستبعد أن تحقق مارين لوبن مرشحة اليمين المتطرف نتائج باهرة في فرنسا.
ظاهرة «الاستهبال الديمقراطي»، إذا جازت التسمية، ليست مستجدة، فقد وقعت في ثلاثينات القرن الماضي حين اختار الناخبون في ألمانيا نظاما نازياً، تسبب بحرب عالمية مدمرة، حصدت ملايين البشر، وتسببت في إيطاليا أيضاً بصعود نظام فاشي، كان شريكاً لهتلر في حربه الهمجية. وكان الشعور بالضعف والإهانة من بين أهم الأسباب التي أدت إلى صعود الفاشية والنازية إلى سدة الحكم بوسائل ديماغوجية، وباستهبال الناخبين. واليوم يتكرر الحال تقريباً في الولايات المتحدة التي اختارت رجلاً نزقاً للرئاسة، وعدها بتحويل الضعف الأمريكي بعد حربي العراق وأفغانستان، إلى قوة مستجدة تستأنف السيطرة على العالم وتقهر التحدي الصيني..الخ.
وبخلاف الشائع عن الأخلاق الرفيعة في الخطاب الديمقراطي، فإن «الديماغوجية» والكذب والتآمر، تكاد تكون جزءاً بنيوياً في سلوك الديمقراطيات الغربية التي وعدت العرب بالوحدة والازدهار إن خرجوا من السلطنة العثمانية، فكان أن قسمت بلادهم إلى دويلات متنازعة، وزرع «الكيان الصهيوني» في وسطها. ووعدت واشنطن العراقيين والليبيين بالديمقراطية، فإذا بالبلدين النفطيين ساحة معارك لا متناهية، وقتال طائفي، وإثني وجهوي لا يني يدمر المدمر، ويجزئ المجزأ. وكانت الكولونيالية الفرنسية احتلت الجزائر في القرن التاسع عشر وفق وعد بنشر الديمقراطية، فإذا بالمستعمر يمنع أهل البلاد الأصليين من حق الانتخاب.
وإذا كان «الاستهبال» والديماغوجية من المكونات السيئة في الخطاب الديمقراطي، فان اللجوء إليهما شائع في الحملات الانتخابية على نطاق واسع، حتى صارا من طبيعة تلك الحملات، كأن يقال «هذه وعود انتخابية»، أي لن يؤخذ بها عندما يتولى المنتخب الحكم، بكلام آخر هذه أكاذيب استخدمت لخداع الرأي العام الذي رضي ب«الاستهبال»، أي الكذب وبالعودة عنه مرة أخرى. لكن رغم ذلك يمكن القول ألف مرة ديمقراطية كاذبة، ولا مرة واحدة حكومات قاتلة، وصادقة في تطبيق سياساتها الوحشية.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"