الحضور الأخير لتشيخوف

05:23 صباحا
قراءة دقيقتين

د. حسن مدن

شاءت الأقدار أن يحضر أنطون تشيخوف العرض الأول لمسرحيته الشهيرة «بستان الكرز» في نفس العام الذي توفي فيه، عام 1904، حيث توفي بعد شهور قليلة فقط على ذلك العرض.

صديقه المخرج المسرحي الشهير ستانسلافسكي الذي أخرج «بستان الكرز» روى الحكاية، ذاكراً أنه في الفترة التي كانوا يستعدون فيها لتقديمها، صادف مجيء تشيخوف إلى موسكو، ما أوحى لفريق المسرحية أن يقيموا حفلاً لتكريمه.

ما إن علم تشيخوف بالفكرة حتى عارضها بشدة، مهدداً بالامتناع عن الحضور للمسرح وملازمة بيته، لكن الأصدقاء واصلوا إلحاحهم عليه، خاصة أن تاريخ العرض الأول في 17 يناير يصادف عيد ميلاده.

حار الأصدقاء في اختيار الهدية المناسبة التي عليهم أن يقدموها لتشيخوف في ذلك المساء. طافوا في جميع محال التحف آملين في العثور على شيء مناسب، فلم يجدوا ما يقنعهم إلى أن رسا اختيارهم على قطعة من القماش النادر المطرز وصفها ستانسلافسكي بأنها «كانت غاية في الإبداع»، وقرروا أن يزينوا بها إكليلاً من الزهور ويقدموها له.

بعد الحفل عاتب تشيخوف ستانسلافسكي على الهدية، قائلاً «إنها بديعة دون شك، ولكن كان أحرى بها أن توضع في متحف»، ولما سأله ما هي الهدية التي كان من الأنسب تقديمها له، قال ضاحكاً كأنه يتحدث على لسان إحدى شخصيات قصصه أو مسرحياته بأسلوبه الساخر: «مصيدة للفئران! فلا بد أن نتخلص من الفئران جميعاً».

يذكر ستانسلافسكي أن تشيخوف بدا طوال العرض مكتئباً، كأنه كان يتنبأ بدنو أجله، وانقبضت قلوب الأصدقاء عندما رأوه واقفاً أمام الستار عقب انتهاء الفصل الثالث، ممتقع الوجه، نحيل الجسم، عاجزاً عن كتمان سعاله أثناء إلقاء الخطب وتقديم الهدايا، ما حدا بالحاضرين للهتاف طالبين منه الجلوس رأفة بصحته، لكنه عبس وظلّ واقفاً حتى انتهاء الحفل.

لعلّ ذلك كان الحضور الأخير للكاتب الكبير، ففي الصيف سيسافر إلى مصحة في ألمانيا لتلقي العلاج بعد أن ازدادت صحته سوءاً وظهرت في معدته أعراض خطيرة تنذر بوصول السل إلى الأمعاء حيث اجتمع أطباؤه وقرروا أن يسافر للمصحة.

أنعش ذلك الآمال لدى محبيه بأن يعود بعد فترة وقد تعافى، لكن آمالهم خابت، وخابت أيضاً آمال تشيخوف نفسه، الذي رغم مرضه كان يحلم بكتابة مسرحية جديدة من نوعٍ لم يطرقه من قبل، ويخطط للسفر إلى الشرق الأقصى للعمل طبيباً بالجيش، حيث كانت الحرب على أشدّها بين اليابان وروسيا، لكن الموت عاجله وهو بالكاد في الرابعة والأربعين من عمره.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب من البحرين من مواليد 1956 عمل في دائرة الثقافية بالشارقة، وهيئة البحرين للثقافة والتراث الوطني. وشغل منصب مدير تحرير عدد من الدوريات الثقافية بينها "الرافد" و"البحرين الثقافية". وأصدر عدة مؤلفات منها: "ترميم الذاكرة" و"خارج السرب" و"الكتابة بحبر أسود".

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"