من أشكال العدوان على اللغة العربية

04:51 صباحا
قراءة 3 دقائق
د.عبدالعزيز المقالح

تتعرض اللغة العربية لعدوان هو الأكثر وضوحاً ودلالة على المستوى العلني المهين للمشاعر، وانتفاء التقدير لوسيلة التعبير الجامعة لأكثر من ثلاثمئة مليون هم سكان الوطن العربي، وأعني به كتابة أسماء المتاجر والمطاعم والفنادق باللغات الأجنبية التي لا ترافقها ترجمتها بالعربية، كأننا في بلد تخلّى عن لغته وحروفها وصار يبحث لها عن بديل يتلاءم مع عقوقه وإهماله وقصور في أدارك مسؤوليته.
إنه شكل صارخ من أشكال العدوان على العربية واستهدافها في عقر دارها وفي قلب مدنها. ولا غرابة إن ضاقت بك الأرض وأنت تمر ببعض الأسواق في هذه المدينة، أو تلك، وترى كل الأسماء واللافتات مكتوبة باللغة والحروف الأجنبية دونما هدف ثقافي، أو اقتصادي، سوى التقليد الأعمى والمحاكاة العشوائية. ولنتوقف قليلاً عند مدينة عربية واحدة هي «صنعاء» التي تأخرت كثيراً عن الالتحاق بركب التحديث. وكيف صارت بعض أسواقها في الوقت الراهن نموذجاً للاغتراب غير المبرر، وفي شارع واحد، أو بالأحرى في سوق واحدة، تتراكم الأسماء واللافتات الأجنبية، كأننا قد انتقلنا فجاءة إلى سوق بريطانية، في وقت لا يوجد فيه بريطاني واحد، ولا أجنبي واحد، وحتى عند ما كان هناك بعض الأجانب في السفارات، أو في بعض الشركات فقد كانوا يتسوقون لشراء احتياجاتهم من «جدة»، ومن «أبوظبي».
وستكون المشكلة - مشكلة هذا العدوان العشوائي على اللغة العربية - أعمق وأخطر عندما ندرك أنه يتم استكمالاً لتغريب لغة المصارف والبنوك، وإقصاء اللغة العربية من حقل الاقتصاد، كأنها عاجزة عن استيعاب الأرقام والمعاملات، وإلى أبنائها يعود فضل اختراع الجبر والمعادلات الرياضية الأصعب. وإذا اعتزلت لغة أمة من الأمم عن معاملات الحياة اليومية، وتم إقصاؤها عن دنيا المال والعمل، فقد اقتربت من أن تغدو لغة متحفية، أو لغة للأغاني والأناشيد، وذلك ما لا يتمناه، ولا يرضى به أحد للغة ثرية المعاني، قادرة على التعبير عن المستجدات في مجالات العلوم والأفكار، وليس في مستطاع أي إنسان إنكار الشوط الكبير الذي قطعته في هذا المضمار عبر الترجمات، والإضافات التي أنجزتها المجامع اللغوية.
وهنا تجدر الإشارة إلى أن دراسة على درجة من الأهمية ظهرت منذ وقت قصير أنجزتها مجموعة من العلماء والباحثين الأجانب المتخصصين في اللسانيات وقضايا اللغات، وما تتعرض له من تحديات الواقع المتغير، وما يرافق هذا التعبير من صراع ثقافي ولغوي، وقد خرجت الدارسة المشار إليها بخلاصة موجزة مضمونها أن ثلاث لغات فقط، هي التي تمتلك القدرة على المقاومة والبقاء، وهي الصينية والعربية والانجليزية. وعسى أن يكون في هذه النبوءة العلمية ما يدفع بأبناء الأمه العربية إلى بذل أقصى ما يستطيعونه، وتستطيعه مؤسساتهم العلمية والتعليمية والثقافية من جهد لتجسيد حقيقة هذه النبوءة، وما توليه من ثقة بمستقبل اللغة العربية، وقدرتها على تحدي الأسباب والعوائق التي ستؤدي إلى انقراض لغات لا تزال حتى الآن أوسع انتشاراً.
إن لصراع اللغة العربية مع خصومها من الغزاة والاستعماريين، تاريخاً موثقاً، إلا أن صراع هذه اللغة مع أبنائها، والجاحدين لفضلها، لم يكن موضوع اهتمام الباحثين، أو حتى من يصدق منهم بأن هناك عربياً يخاصم لغته، أو يقف في مواجهة ما تتطلبه من رعاية، ومواكبة روح العصر ومتغيراته. لكن الأيام أثبتت أن بعض أنصاف المثقفين وأنصاف الكتبة ينظر إلى اللغة العربية بمنظار الأجنبي المعادي، ويرى مثله أنها غير صالحة لتكون وسيلة للتطور والخروج من محيط التخلف. وقد تجلّى حقد هؤلاء الخارجين من جلودهم على اللغة عندما تولى بعضهم قيادة بعض المؤسسات العلمية، أو الإشراف على بعض المنابر الثقافية.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"