تركيا.. حلقة جديدة في مسلسل ترامب

04:57 صباحا
قراءة 3 دقائق
جميل مطر

ما كان في حسبان رجب طيب أردوغان أن رد فعل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب سيكون عنيفاً إلى هذا الحد. لم يتوقع الأتراك أن يصل غضب ترامب على إصرار أردوغان على احتجاز القس الأمريكي إلى حد التسبب في أزمة أصابت الاقتصاد التركي إصابة جسيمة. لم يكن كل شيء في العلاقات التركية-الأمريكية على ما يرام قبل احتجاز القس، ولكن استطاع الطرفان الإبقاء على سفينة العلاقات طافية اعتماداً على الإعجاب الشخصي المتبادل بين الرئيسين. ترامب من جهته كان يرى في أردوغان نموذجاً للحاكم القوي الذي يحكم بدون اعتبار شديد لقوى معارضة أو لقواعد دستورية. أما أردوغان فكان يرى في الرئيس ترامب نموذج القائد الغربي الذي تجاسر فكشف عن الحال المتردي لمعسكر الغرب.
أعجبه أن يكون شاهداً على زعماء دول غربية يتلقون الإهانة بعد الأخرى من الرئيس ترامب، وبعضهم سبق أن أساء إلى تركيا حين تعمدوا وضع العراقيل أمام انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي. فات على الرئيسين، التركي والأمريكي، أن السمات التي تميز بها كل منهما، وكانت وراء إعجابهما ببعضهما هي نفسها السمات الكفيلة بأن تجعل العلاقات بينهما شديدة الحساسية.
عاشت الجمهورية التركية عقوداً عديدة منذ نهاية الحرب العالمية الأولى تمارس تقليد الغرب تماماً مثلما عاشت الإمبراطورية العثمانية في قرونها الأخيرة. غرست هذه الممارسة فكرة أن العالم بأسره يدور حول محور الغرب. هيمنت المركزية الأوروبية على العقل السياسي التركي، وفي الوقت نفسه كانت السبب المباشر وراء اعتناق الطبقة الحاكمة بعض أفكار التمرد على هذا الوضع الموروث عن الإمبراطورية.
وصل أردوغان في لحظة سياسية لها مدلولاتها، وصل حين كانت القطبية الواحدة توشك على إعلان سقوطها والصين على وشك تأكيد نيتها الصعود حتى النهاية، حتى القمة، وروسيا وقد اكتشفت حجم اختراق الغرب وتخريبه مؤسسات الدولة واقتصاداتها، والهند بملامح ونية المستفيد من العولمة.
عادت تهيمن على العقل التركي الشكوك حول نوايا الغرب تجاه تركيا، بل تعددت في السنوات الأخيرة استقصاءات الرأي لتؤكد حالة تطرف في هذه الشكوك. ففي ديسمبر/كانون الأول من العام الماضي 2017 حمل 79 بالمئة من الأتراك على الولايات المتحدة واعتبرها 54 بالمئة أهم خطر يهدد تركيا. ويسود في الرأي العام الاقتناع بأن الغرب، خاصة الولايات المتحدة يقفان وراء الانقلاب العسكري الفاشل في يوليو/تموز 2016، وهو الانقلاب الذي استفاد منه أردوغان ليؤكد به شعبيته وشرعيته. غير خافٍ على كل حال في أنقرة ومواقع كل الأحزاب التركية أن الكونجرس الأمريكي يكره تركيا، أو هذا على الأقل ما يحاول الإعلام الأمريكي والتركي تثبيته ولا يصدر عن الكونجرس بمجلسيه إلا ما يؤكده. لا تخفى أيضاً حقيقة أن جماعات ضغط غير ضعيفة التأثير تعمل منذ زمن على الإساءة إلى مكانة تركيا في الولايات المتحدة، وعلى رأسها جمعيات المغتربين الأرمن ومنظمات تعمل في خدمة مصالح اليونان.
هناك بدون شك عناصر تشجع الطرفين الأمريكي والتركي على عدم المغالاة في حملاتهما المتبادلة. يصعب مثلاً تصور أن تضحي المؤسسة العسكرية الأمريكية بتركيا أو قواعدها كجزء حيوي في الاستراتيجية الدفاعية للغرب. وبالمثل يصعب، حتى هذه اللحظة، تصور تخلي تركيا عن المنافع التي تعود عليها مقابل عضويتها في الحلف الأطلسي. في هذه الحالة يبقى الحلف أهم دوافع ضرورة اعتدال الطرفين في حربهما السياسية والاقتصادية والإعلامية يليه واقع الشبه الكبير بين الشخصيتين، فكلاهما اختار الشعبوية شكلاً لتحشيد الرأي العام وراء شخص الحاكم، يختلفان ولكن في الغالب يفضلان الاعتماد على ما يتفقان فيه وليس ما يختلفان حوله. هذا على الأقل هو أمل الشعبويين في كل مكان. أملهم أن تنشأ «أممية شعبوية»، تضم في صفوفها يساريين ويمينيين. أظن أن ستيف بانون لا يزال في اعتقادي يفكر للبيت الأبيض ويجمع صفوف الشعبويين من كل التيارات في المملكة المتحدة وفرنسا وألمانيا ودول في أوروبا الشرقية والهند، ولا أستبعد انتقاله قريباً إلى أمريكا اللاتينية.
الأتراك يحبون الروس أو هكذا تتردد نغمة في الإعلام التركي. أردوغان كان ولا يزال نموذجاً للقائد الواقعي، وأظن أنه سيبقى على هذا التوجه. لن يكون في مصلحة المؤسسة الأمنية الغربية إلقاء تركيا في سلة موسكو أو الصين، ولن يكون في مصلحة النخبة الاقتصادية التركية أن تلعب دوراً تابعاً في موجة الاستثمارات الصينية تحملها مبادرة طريقي الحرير والحزام. يستطيع أردوغان مدفوعاً بعناده الأسطوري وكره الأتراك للغرب أن يصعّد مواجهته مع ترامب ومع ميركل فيكسب شعبية أوسع. يستطيع أيضاً بواقعيته المشهودة وبتدهور الوضع المالي للبلاد أن يخلد قليلاً إلى الهدوء حتى يصل وتركيا والإقليم من بعدهما إلى مرفأ أمواجه أقل هياجاً.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي مصري سابق وكاتب متخصص بقضايا العلاقات الدولية. اشترك في تأسيس مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بمؤسسة الأهرام. وأنشأ في القاهرة المركز العربي لبحوث التنمية والمستقبل. عضو في مجلس تحرير جريدة الشروق المصرية ومشرف على صفحة الرأي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"